قراءة في مخرجات مؤتمر "اشراطة"/ د. محمد سالم ولد دودو

جمعة, 28/08/2020 - 21:52

سأقتصر في هذه التأملات على استخلاص ما تضمنه المؤتمر، مما يتعلق بقضية الساعة، التي هي الفساد والجرائم الاقتصادية. متجاوزا كل المزايدات السياسية، والمناكفات الأمنية، والبهارات الدعائية، وجدليات الحصانة والاختصاص التي طغت -عمدا أو اضطرارا- على المؤتمر. 
وسنتناول ذلك ضمن ثلاث وقفات؛ مع الهجومات أولا، ومع الدفاعات ثانيا، ومع الفرص التي ضيعها الصحفيون ثالثا.
أولا- الهجومات: 
لقد سيطر على المؤتمر هجوم مكثف على الرئيس الحالي وهجمومات متفاوتة على أركان نظامه بجناحيه التنفيذي والتشريعي.
وتتجلى الهجومات الموجهة لشخص الرئيس الحالي، المتعلقة بقضايا الفساد والجرائم الاقتصادية، في أربعة أمور أساسية، تم الرد المباشر حتى الآن على أحدها.
1- صرح المشتبه به بضلوعه ورفيقَه السابق في قضيتي أكرا والسنوسي، محاولا اعتبارهما عاديتين جدا. وهو في النهاية توريط لنفسه قبل غيره، رغم ما فيه من استعطاف أو ابتزاز يغري بطي الصفحتين نهائيا.
ولعل أهم ما يثيره هذا الاتهام هو السؤال عن سر الاحتفاظ "ببطلة أكرا" ؟! رغم ما ترمز له من قضايا مشابهة أو مشبوهة على الأقل.
2- تساءل أين كانت تذهب أموال الجيش خلال العشرية وقبلها وبعدها ؟! وهو اتهام ضمني خطير للرئيس الحالي ولرفاقهما من القادة العسكريين بالفساد والاستحواذ على أموال الجيش.
وليته كان تساءل، أو ساءل عن ذلك قبل اليوم!!.. والسؤال المطروح الآن؛ هل كان ذلك بعلمه هو وتغاضيه ؟! أم أنه لم يكتشفه إلا بعد التفرغ ؟! وهل يدخل هذا التلويح واللذين قبله (أكرا والسنوسي) في إطار بعبع "اشراطة" ؟!
3- حاول إثبات فساد الرئيس الحالي بإعطاء دليل ملموس، هو زيادة ميزانية الرئاسة في السنة الأولى من حكمه بنسبة 88%. وهو الاتهام الذي قلبته عليه السلطة فورا ببيان أن الأمر يتعلق بإظهار ما كان مخفيا، من باب الشفافية لا أكثر.
وهذا ما قد يوظفه التحقيق ضده باعتباره إقرارا بتسيير نسبة 94% من الميزانية الرئاسية الإجمالية طيلة حكمه في الخفاء.
4- استظهر لإثبات فساد النظام الحالي وتواطؤ الرئيس بتواني المفتشية العامة للدولة طيلة السنة الفارطة عن إجراء أي عملية تفتيش. 
وإن صحت هذه الدعوى فهي جديرة بالاعتبار، وإلا فهي جديرة بالدحض بالوقائع الثابتة.
وغير بعيد من هذه الاتهامات المباشرة لشخص رئيس الجمهورية، فقد كان الاتهام المباشر الأكثر مفاجأة لي، وربما لغيري، هو تعريضه بالثراء المفاجئ لرئيس الاتحادية العامة لأرباب العمل خلال العشرية والخمسية الممهدة لها، في إشارة إلى أنه لم يكن قبل 2005 شيئا مذكورا !!
ومبعث الاستغراب هو أنه كان الشخص الوحيد الذي ضرب به المثل ولفت إليه الانتباه فيما يشبه التشهير أو الهجوم!!.. رغم أن الشائع في الأوساط المالية والإعلامية والشعبية أنه كان أحد شركائه البارزين الذين استفادوا لعلاقتهم به من صفقات عديدة لم يطلها تقرير اللجنة.. 
فما هي الرسالة التي يريد المشتبه به توصيلها ؟! 
هل هي -على فرض صحة الشراكة- شعور بتعاون محتمل للمعني مع دوائر التحقيق، وبالتالي محاولة للتبرؤ من ودائعه عنده، قصد توريطه بها ؟!
أم هو -على فرض عدم الشراكة- تلويح بمعلومات مؤكدة عن شراكة "لمناوئين  له" مع المُشَهَّر به ؟!
أم أن هناك أمرا آخر لم يتكشف بعد ؟!
ومهما يكن فإن مسار التحقيق والخرجات الإعلامية المرتدة عنه كفيلان -بإذن الله- بفك هذا اللغز.
ثانيا- الدفاعات:
لعل المشتبه به أراد بكثافة هجوماته وتنوعها واستمرارها طيلة المؤتمر تعزيز دفاعته التي بدت مرتبكة وباهتة وانقلبت في بعض الأحيان إلى اعترافات خطيرة..
فرغم أن الامتناع عن الإجابة عن السؤال الجوهري (من أين لك هذا)، كان هو سيد الموقف.. فإن أسئلة جزئية متنوعة استطاعت أن تجر إلى اعترافات نوعية ستساعد المحققين كثيرا في إثبات تهمة الفساد واستغلال النفوذ للثراء الفاحش بالنسبة للمشتبه به الرئيسي ولأفراد أسرته، وبعض أركان نظامه.
ومن ذلك على سبيل المثال 
1- اعترافه أكثر من مرة بامتلاك ثروة كبيرة، مع التهرب من الإفصاح عن حجمها الحقيقي ومصادرها.
2- اعترافه الصريح والمتكرر بأنه ظل، منذ توليه مقاليد الحكم إلى اليوم، في غنى تام عن سحب أي شيء من رواتبه طيلة الفترة، وأنه ظل يودعها في حساب واحد، تابع للسيدة.. متظاهرا بأنه غير عارف ولا عابئ -أصلا- بمبلغ المرتب الضخم الذي ظل يتقاضاه!! 
ولا شك أن هذا الاعتراف، والاعترافات المتكررة بالثراء، وما هو معلوم بالضرورة من ضخامة الإنفاق اليومي، وحجم الممتلكات العقارية المعروفة.. كلها أمور متضافرة تثبت توفر المشتبه به على مصادر دخل عملاقة لم يتم الإفصاح عنها حتى الآن.. مما يعزز قوة تهم الفساد والغلول والارتشاء والكومسة التي أشار إليها تقرير اللجنة البرلمانية.. فضلا عن استغلال النفوذ لكل ذلك، من طرفه ومن طرف أقاربه ومقربيه، تحت حمايته، وربما بشراكة معه.
3- بدا المشتبه به مرتبكا جدا، ومتلعثما في رده على  سؤال عن السيارات المهداة لوزارة التهذيب وللقمم والمؤتمرات التي احتضنتها نواكشوط، والتي يقال إنه تم التعرف عليها في مخازن تابعة له أو لهيئة الرحمة!! وكانت مصادر توصف بالمطلعة قد تحدثت حينها عن اختفائها بعد وضع الرئاسة اليد عليها مباشرة.
واكتفى المشتبه به بالقول إنه لا علم له بذلك، مؤكدا أنه ترك ما بين 300 إلى 400 سيارة في مخازن الدولة، دون أن يتصرف في شيء منها، ملمحا إلى أن التصرف فيها قد يكون حدث بعد مغادرته.. 
وبذلك بقي السؤال عن طبيعة السيارات المشتبه بها ؟! ولمن تعود ملكيتها ؟! ومن أين له ؟! وكيف وصلته ؟! بدون جواب أو بيان ما إذا كانت له، أو كانت تابعة لهيئة الرحمة ؟!
وكذلك لم يصرح تماما بأن الإهداءات محل السؤال،  (وقد عدد نماذج منها)؛ كانت فعلا ضمن العدد الذي تركه في مخازن الدولة عند مغادرته الحكم !!..
ويبقى السؤال المطروح على فرض أنه تركها في مخازن الدولة، وتم التصرف فيها من بعده، فكيف يتم التعرف عليها في مخازن تابعة له شخصيا، أو لهيئة ردالرحمة التابعة لنجله في أبعد الاحتمالات ؟!
4- بدا الارتباك والتناقض وضعف الدفاع عن ثروة زوجه وصهره وسمسرة ابنته ومصادر تمويل هيئة الرحمة.. كما بدت المبالغات الدعائية في الخدمات التي قدمتها الهيئة للمجتمع وللدولة.

ثالثا- الفرص الضائعة:
لقد بدا العديد من الصحفيين مهادنا كثيرا، وربما مجاملا أو غير جاد على الأقل، مما ضيع جزءا كبيرا من الوقت في أشياء لا تمس صلب الموضوع، ولا تفيد في إنارة الجمهور حول القضية المسيطرة على اهتمامه.
وفي هذا الصدد غابت أسئلة كثيرة ذات محورية، منها على سبيل المثال:
1- تغيير العملة وما يقال من أنها كانت غطاء للاحتفاظ بكميات ضخمة (من فئتي 1000 و 500 الجديدتين)، تم احتفاظه شخصيا بها خارج أرصدة الدولة ومؤسساتها ؟! 
2- ما يقال من علاقته وعلاقة أفراد عائلته وعن استفادتهم اللافتة من المبيعات "رخيصة الأثمان" للمكتب العقاري للشيخ الصعيدي ؟!
3- الجزء المنسوب له من أرضية المطار القديم، وما يقال عن "المداخلات" فيها بينه وبين شركة النجاح ؟!
4- علاقته بالبواخر المحتجزة في نواذيب والشركة التي تتبع لها ؟!
5- علاقته بالمزارع المنسوبة له شرقي روصو، والتي يكثر الحديث عن تردده عليها ؟!
6- المحمية السياحية جنوب قرية إديني التي أرغمت العديد من قرى المنطقة على تغيير كبير وشاق في الطرق التي تربطها بطريق الأمل.. ومنعتهم وغيرهم من المنمين من الرعي في منطقة شاسعة خصبة، ظلت تشكل ملجأ لهم في فترات الصيف والخريف..  ويوجد بالمحمية العديد من أنواع الغزلان والطيور والزروع.. وتتوفر على نحو عشرة آبار ارتوازية تمتح من بحيرة إديني الجوفية العذبة.. وبها خزان مرتفع وبعض المباني.. ويقوم على حراستها الأمن الرئاسي، ويخترق طولها طريق مسفلت (إلى حدما)، يمتد نحو عشرين كلم، ويربط بينها وبين طريق الأمل.. 
فهل هي ملك شخصي له ؟! أم هي منشأة عمومية ؟! وما علاقتها في كلا الحالين بالأمن الرئاسي ؟! أم أنها منتجع تابع لرئاسة الجمهورية ؟! 
7- رده على الاتهامات الموجهة إليه من شركة صوملك بالتحايل على الكهرباء في العديد من المباني والمزارع والمصانع المنسوبة له ؟!
 
وأخيرا؛
لا أعتقد أن الدافع الأكبر لفضول الجماهير المتشوقة أو المتشوفة لهذه الخرجة، يتعلق بالجواب الشافي عن تهم الفساد والجرائم الاقتصادية، إذ لا يتوقع منه الاعتراف الصريح، ولا يعقل حجب شمسها بغرابيل المراوغات..
بل كان المثير لفضولهم هو فك لغز توظيفه للمثل الشهير؛ (هديت الحلمة على اشراطة). ولا يبدو أن المؤتمر قدم غير احتمالين للإجابة.
أحدهما- أن تتلخص "اشراطة" في الهجومات الواردة في الفقرة الأولى.. وإذا كان كذلك فإنها قد تكون أشد أثرا على "الحجَّام" منها على الحلمة ذاتها.
وثانيهما- أن الإصرار على "اشراطة"، ليس إلا  الإصرار على هذا المؤتمر نفسه.. فتكون الحلمة هي الحجام نفسه.

تصفح أيضا...