في أحد الأيام من عام 2012، في باماكو عاصمة مالي الواقعة غرب قارة إفريقيا، كانت سيارة ذات دفع رباعي تتجه نحو طريق اسمنتي. وكان يجلس في مقعدها الأمامي رجل يرتدي رداء كالجلباب وطاقية صلاة صغيرة، وكان الرجل يبلغ من العمر 47 عاماً، وطوله نحو ست أقدام، وثمة شاربان على شفته العليا. وكانت تبدو على وجهه سمات القيادة، كما أن عينيه العسليتين تنطويان على ذكاء شديد، إنه أمين مكتبة تمبكتو، عبدالقادر حيدرا، الذي أصبح اسمه مشهوراً في شتى أنحاء العالم.
لم يكن حيدرا رجلاً متردداً، لكن في ذلك الصباح كان سائقه يقود السيارة عبر سحب الدخان الناجمة عن الدراجات الآلية الصينية الصنع، وهي تسابق الحافلات الصغيرة الخضراء التي عجت بها شوارع المدينة، لهذا كان يشعر بعدم الرضا. وكان مذياع السيارة يتحدث عن الوضع في شمال البلاد، في حين أن هاتفه المحمول يرن باستمرار معلناً وصول تقارير من معارفه في تمبكتو، التي تبعد عنه نحو 600 ميل، لقد كان المتمردون يتقدمون عبر الصحراء، وهم يدحرون القوات الحكومية واللاجئين أمامهم.
وأدرك حيدرا، عندما ترك شقته، أن قيادة السيارة في مثل هذه الفوضى ستكون أمراً خطيراً، لكنها تبدو الآن مهمة انتحارية. ومن الصعب القول إن أمين المكتبة كان مسؤولاً عن جزء من التاريخ المهمل، إنها مخطوطات تمبكتو، وهي مجموعة من الوثائق المكتوبة بخط اليد، وهي كثيرة العدد لدرجة أنه لا يوجد من يعرف عددها بالضبط، مع أن حيدرا نفسه يعتقد أن العدد يصل إلى مئات الآلاف.
وتحوي هذه الوثائق بعض أكثر المصادر المكتوبة أهمية، لما يعرف بالعصر الذهبي لتمبكتو، في القرنين الخامس والسادس عشر، وتفاصيل عن إمبراطورية سونغاي العظيمة التي كانت جزءاً منها. وتم جمعها باعتبارها دليلاً على التاريخ النابض بالحياة والمكتوب للقارة الإفريقية. وقلة من الأشخاص هم الذين بذلوا الجهود للبحث عن هذه الوثائق كما فعل حيدرا، لكن في المرحلة المقبلة لن يكون لأحد فضل إنقاذها من الهلاك.
وبصورة شخصية، كان أمين المكتبة حيدرا رجلاً جديراً بالاحترام، إذ إن مصافحته تثير الدهشة لنعومة يديه، وكان مطلعاً بصورة جيدة على تاريخ ومحتوى الوثائق، لكنه كان يبدو كرجل أعمال أكثر منه كعالم، فقد كان يدير أعماله بلغات عدة عن طريق هاتفه النقال، أو ربما بصورة شخصية من وراء مكتبه. ولم يكن الشخص الوحيد الذي يمتلك مثل هذه المخطوطات في المدينة، لكنه يملك أكبر مجموعة خاصة، ومؤسس منظمة «سافاما» المكرسة لحماية الإرث المكتوب للمدينة، وهو يدعي أنه يمثل معظم عائلات تمبكتو، التي تمتلك مثل هذه المخطوطات.
وبينما كان يجلس حيدرا في سيارته، صباح 31 مارس، أدرك أن ثمة مكاناً وحيداً عليه أن يوجد به، واتجه بسيارته نحو الشمال الشرقي، باتجاه تمبكتو والحرب.
وأعلنت الحركة الحرب ضد حكومة باماكو، بمساعدة حلفاء تنظيم «القاعدة»، وأنزلت العديد من الهزائم المهينة بالجيش المالي الضعيف والمعوز. وفي عام 2012، قام عدد من الضباط الساخطين في الجيش المالي بانقلاب، واستغل المتمردون فرصتهم في الفوضى السياسية القائمة، واكتسحوا البلاد حيث تقهقر الجيش الحكومي أمامهم، وتمكنوا من السيطرة على تمبكتو وحكموها لمدة عام كامل، بمساعدة «القاعدة في المغرب الإسلامي».
وبقي حيدرا في تمبكتو، التي كان يحكمها المتمردون لمدة شهرين، حيث كان يعمل على إخفاء مخطوطاته في منازل العائلة، وبعد ذلك عاد إلى باماكو، وراح يفكر في نقلها إلى الجنوب. وباعتباره من سكان تمبكتو، فلم يكن لديه مكتب في العاصمة، لكن صديقته الأميركية ستيفاين دياكيت كانت تملك مكتباً. وبحلول أكتوبر 2012، أصبح حيدرا ودياكيت فريقاً، حيث وصفا نفسيهما - في ما بعد - بأنهما تحالف يتألف من «منظمة سافاما» غير الحكومية، التي أسسها حيدرا و«منظمة دياكيت للتنمية». وكان جمع المال أساسياً في عملياتهما، وكانت لـ«دياكيت» بصورة خاصة اتصالات مع الحكومات، والمؤسسات الأجنبية، التي عرفتها من خلال عملها في التنمية، وكانت هذه المنظمات هي التي تبرعت لهما بمبالغ ضخمة من المال.
وكانت إحداها مقرها في أمستردام، وهي صندوق الأمير كلاوس زوج ملكة هولندا بياتريس، وكان هذا الصندوق المدعوم من قبل حكومة هولندا، وشركة اليانصيب الوطني فيها، التي لديها «استجابات ثقافية طارئة»، إذ تم إنشاؤها عندما قامت «طالبان» بتدمير تماثيل بوذا في باميان بأفغانستان عام 2001. ولم تلتقِ ديبورا ستوك منسقة البرنامج مع حيدرا ودياكيت من قبل، لكنها شعرت بأن حيدرا بصورة خاصة «يمتلك سجلاً جيداً»، وفي بداية أكتوبر كانت الأخبار التي وصلت إلى ستوك من باماكو، عن طريق «الإيميل» والهاتف و«سكايب» مفزعة. وأبلغتها دياكيت بأن المتمردين الذين احتلوا المدينة ينفذون عملية «تفتيش ومصادرة» في المنازل الخاصة والمتاجر، وازداد قلق حيدرا من أن المخطوطات قد تكون هي الهدف الذي يبحثون عنه.
وفي 8 أكتوبر، تلقت ستوك بريداً من دياكيت تبلغها فيه بأن العائلات التي تملك المخطوطات في تمبكتو، تريد من «منظمة سافاما» تهريب مجموعاتها إلى باماكو، وأن عدم وجود نقاط تفتيش على الطريق المؤدي إلى الجنوب يسهل ذلك، وأبلغتها بتفاصيل عملية تهريب المخطوطات في صناديق، كل منها يتسع لنحو 250 أو 300 مخطوطة. واقتنعت ستوك بالعملية، رغم تيقنها من وجود مخاطر كثيرة، إلا أنها أفضل الخيارات.
وفي 17 أكتوبر، وقعت مؤسسة صندوق الأمير كلاوس عقداً لنقل 200 خزنة من المخطوطات، وبلغت تكاليف العملية 100 ألف يورو، أو ما يعادل 500 يورو عن كل خزنة، ولم تكن هذه الأموال من أجل نقل المخطوطات فحسب، وإنما من أجل العملية برمتها وما تحتاج إليه من استعداد لوجستي.
وحسب تقرير لاحق عن نقل المخطوطات، بدأت عملية نقل المخطوطات بعد يوم واحد من توقيع العقد من قبل صندوق الأمير كلاوس. ففي 18 أكتوبر بدأ أول فريق من العاملين في نقل المخطوطات، حاملين نحو 35 صندوقاً على عربات تجرها الحيوانات، ونقلوها إلى ضواحي تمبكتو، ومن هناك تم نقلها على الحافلات والشاحنات إلى الجنوب، باتجاه العاصمة باماكو. وبحلول نهاية عام 2012، أبلغت منظمة سافاما السفارة الألمانية في باماكو بأنه تم نقل ما بين 80 ألفاً إلى 120 ألف مخطوطة من تمبكتو.