حدثني صديق كان يدرس في جامعة نواكشوط أنه في سنته الأخيرة واجه معضلة تأخر ظهور نتائج الامتحانات. فقد تعود أن تخرج النتائج في وقتها دون تأخر، وتُعلَّقَ على أبواب الفصول في اليوم الموعود، وبخط يدويٍ مقروء.
لكنهم في السنة الأخيرة انتظروا النتائج أسبوعين عبثا. فاجتمع الطلاب وقرروا الاحتجاج، وذهبوا في مظاهرة صغيرة للقسم المعني.
فخرج إليهم رجل قصير يتمطّى في دُراعة مصفرة، لا يكاد ربعُ وجهه يُرى من تحت لثامه القاتم، وصاح بهم: "عليكم الانتظار! أما علمتم أننا أصبحنا نستخدم الحاسوبَ لكتابة النتائج!".
لعل هذه القصة تختصر قصة وكالة السجل السكاني والإحصاء.
فالطبيعي أن يكون دور التقنية والضبط تيسير حياة الناس وتسهيلُ خدمتهم، وتقريبُ مبتغاهم من أيديهم. فطباعة بطاقة أو جواز يصبح بضغطة زر واحدة، واستخراج شهادة ميلاد يغدو ممكنا في ثوان. إلا في ذلك المنكب البرزخي المنكوب؛ فكل تحديث تخلف، وكل إجراء تطويري ينعكس سنةً ضوئية في غياهب التردي.
دخلتُ – قبل أشهر - أحد مكاتب الحالة المدنية بنواكشوط فتلقتْني صورة صادمة. رأيت مجموعة من القُصَّر يحْبون حَبوا على البلاط. كانت وجوههم شاحبة، وملابسهم مغبرة، ورُكبهم العارية المتعرقةُ تقرع البلاط قرعا. كانت نظراتهم منطفئة وشفاههم جافة، مع وجوهٍ يُجلّلها الإرهاق وطول السهر، وهم مع ذلك صامتون ومستسلمون لذلك العذاب رغم حداثة السن وطراوة الإهاب.
شغلني منظرهم عن الأتراح التي كنت منغمسا فيها. فقد دخلت توا إلى المقر من باب حديدي صدئ تتناوشُني الأيدي والركبُ والسواعد ورائحة العرق المشوب برائحة الغبار. خرجت ووقفت مشدوها وأنا أنظر إلى الأطفال. لم أفهم السر فاستخبرتُ دركياً يعتاش من مساعدة الناس على الدخول. أجابني بأنهم في طابور منذ الرابعة فجرا، ويطلبون بطاقات تعريف لأن الإدارة جعلت الحصول عليها شرطا للمشاركة في مسابقة السنة السادسة الابتدائية. (نعم، ما زال تجاوز السنة السادسة يخضع لمسابقة!).
لقد اضطرت الحكومة الموريتانية (تحت ضغط الاتفاقيات الدولية ومساعي واشنطن وأوروبا لإنشاء قاعدة بيانات كونية للبشر) إلى ضبط الحالة المدنية. لكن ذلك الضبط بُني على فكرة خدمة الأجنبي الممول، لا المواطن الموريتاني البائس.
لقد نجحت الوكالة في إشغال المواطن بالحالة المدنية عن الحالة السياسية. ولعل من مميزات الموريتاني - كأخيه السوداني - أنه إنسان سياسي. فمنسوب الحرية الموجود – بفضل الثقافة الاجتماعية لا بفضل السلطات المتعاقبة - متّع هذيْن الشعبين بوعي سياسي مقدّر، واهتمام بواقعهم السياسي تفتقده معظم المجتمعات العربية. غير أن "وكالة مْربّيهْ" – غير المأسوف عليه - نجحت في إشغال الموريتانيين بأوراقهم عن أرزاقهم، وتحويلِ مجالسهم إلى مجالس لا تخلو من قصص بطولات عن الحصول على بطاقة تعريف في ثلاثة أيام، وإصلاح اسم في شهرين فقط.
أصبح الإنسان يكدح ويبذل ماء وجهه ليل نهار، لا ليحصل على لقمة عيش أو وظيفة، بل ليضع يده على شهادة ميلاد طفل، أو ورقة زواج، أو بطاقة تعريف ليستطيع طفله دخول مدرسة مهترئة.
فلا يكاد يوجد موريتاني واحد إلا وله قصة نضال لمدة أشهر من أجل الحصول على جواز، أو بطاقة تعريف أو شهادة ميلاد. فالنظام المتخلف الذي اختير لضبط الحالة المدينة عاجز، والعمال الذين عُيّن كثير منهم بالوساطات لا يملكون الكفاءة ولا الخبرة للتصدي للمهمة، وتحويلُ الوكالة إلى آلة ضخمة للجباية ضاعف من الأزمة.
ونتج عن تلك الأغلاط تحول الجواز الموريتاني – رغم تواضع مقامه بين جوازات العالمين - إلى أغلى جواز على ظهر الأرض.
فمعظم سكان المعمورة يدفعون أقل مما يدفع الموريتاني للحصول على جوازه. فالموريتاني يدفع ما معدله 100 دولار لجواز لا تتجاوز صلاحيته خمس سنوات، بينما يدفع الهندي 23 دولارا لجواز عشر سنوات، والجنوب إفريقي 14 دولا لجواز عشر سنوات، والأرجنتيني 35 دولارا لجواز عشر سنوات. وإذا كانت السلطات الموريتانية قد قامت بحسابات مالية دقيقة قادتها إلى أن دخل الفرد الموريتاني مساوٍ لدخل أخيه الأميركي والبريطاني وعليه أن يدفع 100 دولار عن الجواز، كان عليها كذلك أن تجعل فترة صلاحيته عشر سنوات مثل الولايات المتحدة وبريطانيا.
وليت الفرق في سعر الجواز فقط. فمعظم المغتربين الموريتانيين يدفعون نحو مليون وخمسمائة ألف أوقية للحصول على جواز جديد (نحو أربعة آلاف دولار). وآيةُ ذلك أن السفارات التي تمنح الجوازات لا تزيد على ثلاث أو أربع. ثم إنها في كثير من الأحيان ليست هناك لحل المشاكل بل لخلقها، ولعل القصتين التاليتين اللتين شهدتهما دليل على ذلك.
كان أحد أصدقائي يعيش في إحدى دول الخليج، وانتهت صلاحية جوازه. فاضطر – لشروط "وكالة مْربيه" - إلى السفر إلى البلاد ليجدد جوازه، كما سافر أحد أطفاله من دولة أوروبية لذات الأمر بعد أن رفضت السفارة في فرنسا التعاطي معه.
وبذا فهذا الرجل دفع تذكرتيْن إحداهما من الدوحة، والثانية من دولة أوروبية واضطر لترك عمله أسبوعين كي يحصل على جوازيْن. وهكذا كلفه كل جواز نحو مليون وخمسمائة ألف أوقية. هذا إذا استثنينا ضريبة دخول المغترب إلى بلاد يطحنها الفقر والحاجة لكل شيء.
كما شهدتُ رجلا ذا عيال دخل أزمة مالية بعد اضطراره للسفر بأطفاله الخمسة لمهمة واحدة هي تجديد جوازاتهم. فلك أن تقدر كم كلفتْ تذاكرُ وتنقلات سبعة أشخاص من أجل الحصول على جوازات!
أما زملاؤنا من الدول العربية – مع تخلف بلدانهم - فتأتيهم جوازاتهم بكرةً وعشيا ساهين لاهين لا يُراعون. ثم إن جوازات الناس صالحة لعشر سنوات –كما أسلفنا - ونحن لا تتجاوز جوازاتنا خمس سنوات خلافا لمعظم سكان الكرة الأرضية.
فلا يكاد ذلك الجواز العظيم يقع في يد الواحد منا حتى يُراعَ مفكرا في ما هو فاعل إذا ما نفد بعد سنوات قليلة. فأعذار الوكالة لا تنتهي، وأخطاؤها لا تحصى، ويُطلق خياله متمليا طبيعةَ العذاب الذي ينظره بعد انتهاء صلاحية هذا الجواز العظيم.
ساهمت الوكالة كذلك في صناعة ظاهرة الروهينغا الموريتانيين. فهناك آلاف المواطنين – إن لم يكونوا عشرات الآلاف - ممن لا يملكون ورقة ثبوتية واحدة بسبب تعقيدات الإدارات وخيالها القاصر، وعدم حرصها على حل مشاكل الناس. ولعله لا يوجد إنسان يستحق أوراقه حقيقة إلا الإنسان الموريتاني. فكل من صبر أجداده في هذه البلاد - غير الجاذبة بالفطرة - يستحق ألف ورقة تثبت انتماءه لبلاد لا تعلِّمه ولا تعالجه ولا تحميه.
أتمنى أن يكون الأخ العزيز أحمد ولد بو سيف – الرئيس الجديد للوكالة - عند حسن الظن به ويُساهم في كفكفة جراح المعذبين في الأرض... في ذلك المنكب البرزخي.