هذا نص كتبته ردا على أحد أعضاء مجموعة على الشبكة حول البناء على القبور:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
نشر أحد أعضاء المجموعة نور الله قلبه بالإيمان ومكن عقله بالعلم، كلاما وضعه تحت عنوان "حكم بناء القباب والمساجد على القبور سواء قبور الأنبياء أو الأولياء والصالحين وغيرهم". ولو أفصح عن اسمه وأظهر صورته لهان الأمر لأن ذلك مما يسهل علينا معرفة ما إذا كان هذا الشخص مؤهلا لإصدار الأحكام الشرعية أم لا.
ومع ذلك فبتستره وراء اسم غير اسمه، أزاح هذا الشخص اللبس عن مسألة تأهله للفتوى من حيث لا يشعر. إذ أن مجهول الحال لا تجوز الصلاة به أحرى العمل بفتواه، أما إذا تسمى باسم غير اسمه وتنكر في صورة غير صورته، فذلك لا شك مما يسقط عدالته.
تصوروا أن شخصا دخل على جماعة متنكرا، فسألوه عن اسمه فأجابهم باسم يعلمون من قرائن الأحوال أنه ليس اسمه؛ ثم بدأ يعلمهم دينهم؛ فكيف يتبعونه وهم يعلمون أنه كذاب؟ وقد حذر العلماء كل التحذير من أخذ أمور الدين عمن لم يشتهر علمه وورعه، حتى ولو كان معروفا، لكي لا يتسنى لكل من هب ودب أن يوجه العامة لأغراضه الخاصة متخذا الدين وسيلة؛ بل إن أعداء الدين قد يغتنمون ذلك فيندسون بيننا ليفسدوا ديننا.
وقد ظهرت في السنوات الأخيرة جماعات تعتدي على قبور الأولياء والصالحين وبلغ الأمر بهم أن أحد رؤوس فتنتهم طالب علنا بهدم الغرفة الشريفة وإخراج جسده الشريف من المسجد؛ ولا يخفى ما في هذا الأمر الذي تصطك منه المسامع من محاولة لطمس أقدس مقدسات الإسلام؛ وهو أمر لا يمكن أن يصدر إلا عن أعداء هذا الدين حتى ولو كان منفذوه لا يعون ذلك.
كما أن اعتبار البناء على القبور شركا هو عندهم أصل كبير من أصول تكفير المسلمين واستباحة دمائهم؛ لذلك وجب التصدي لها.
ولهذه الأسباب وجدت نفسي مضطرا لتوضيح المسألة كي لا يغتر أحد بما جاء في هذا المنشور، ولست أدعي من العلم إلا القدرة على نقل كلام العلماء في المسألة. وأرى، كي تتضح المسألة أكثر، أن أنقل كلام هذا الشخص دون أدنى تغيير، وهو كما كتبه:
" حكم بناء القباب والمساجد على القبور سواء قبور الأنبياء أوالأولياء والصالحين وغيرهم .
عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " قالت عائشة : يحذِّر ما صنعوا . قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا " .
في الصحيحين أيضا أن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال صلى الله عليه وسلم: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله " . (خ/ 427 ، م/ 528)
ومما يدل على عدم اطلاع صاحب هذا الكلام على أقوال العلماء في المسألة أنه لم يستدل أحد من أهل العلم بأي من هذين الحديثين في مسألة البناء على القبور، وإنما فهم أهل العلم منهما منع الصلاة إلى القبور قصد العبادة أو التعظيم، ولو تأمل حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لوجد ذلك صريحا من كلامها حيث قالت: "ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا". فهذال دال على أن المنهي عنه هو التوجه إلى القبر بالعبادة وقد صرح بذلك نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام في حيث: اللهم لا تجعل قبري وثنا، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
قال في "تحفة الأحوذي": "تنبيه : قال في مجمع البحار: وحديث لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد كانوا يجعلونها قبلة يسجدون إليها في الصلاة كالوثن، وأما من اتخذ مسجدا في جوار صالح أو صلى في مقبرة قاصدا به الاستظهار بروحه أو وصول أثر من آثار عبادته إليه لا التوجه نحوه والتعظيم له فلا حرج فيه، ألا يرى أن مرقد إسماعيل في الحجر في المسجد الحرام والصلاة فيه أفضل. انتهى. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في "اللمعات" في شرح هذا الحديث: لما أعلمه بقرب أجله فخشى أن يفعل بعض أمته بقبره الشريف ما فعلته اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم فنهى عن ذلك. قال التوربشتي هو مخرج على الوجهين: أحدهما كانوا يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لهم وقصد العبادة في ذلك، وثانيهما أنهم كانوا يتحرون الصلاة في مدافن الأنبياء والتوجه إلى قبورهم في حالة الصلاة والعبادة لله نظرا منهم أن ذلك الصنيع أعظم موقعا عند الله لاشتماله على الأمرين: العبادة والمبالغة في تعظيم الأنبياء، وكلا الطريقين غير مرضية؛ وأما الأولى فشرك جلي، وأما الثانية فلما فيها من معنى الإشراك بالله عز وجل وإن كان خفيا. والدليل على ذم الوجهين قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تجعل قبري وثنا، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. والوجه الأول أظهر وأشبه، كذا قال التوربشتي وفي شرح الشيخ: فعلم منه أنه يحرم الصلاة إلى قبر نبي أو صالح تبركا وتعظيما. قال وبذلك صرح النووي. وقال التوربشتي: وأما إذا وجد بقربها موضع بني للصلاة أو مكان يسلم فيه المصلي عن التوجه إلى القبور فإنه في ندحة من الأمر. وكذلك إذا صلى في موضع قد اشتهر بأن فيه مدفنا بني لم ير للقبر فيه علما ولم يكن تهده ما ذكرناه من العمل الملتبس بالشرك الخفي. وفي شرح الشيخ مثله حيث قال: وخرج بذلك اتخاذ مسجد بجوار نبي أو صالح والصلاة عند قبره لا لتعظيمه والتوجه نحوه بل لحصول مدد منه حتى يكمل عبادته ببركة مجاورته لتلك الروح الطاهرة فلا حرج في ذلك لما ورد أن قبر إسماعيل عليه السلام في الحجر تحت الميزاب، وأن في الحطيم بين الحجر الأسود وزمزم قبر سبعين نبيا، ولم ينه أحد عن الصلاة فيه. انتهى . وكلام الشارحين مطابق في ذلك. انتهى ما في اللمعات."
وأما الحديث الذي استدل به بعض أهل العلم على منع البناء على القبور فهو ما رواه مسلم وغيره من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه.
ولجمهور أهل العلم في ذلك تفصيل؛ حيث رأوا أن البناء على القبور تعتريه أحكام الشرع إذ يحرم ويكره ويجوز؛ بل ذهب بعضهم إلى أنه قد يستحب. وهذا التفصيل هو الذي به الفتوى عند المالكية والشافعية، واختلفت الأحناف بين الكراهة مطلقا والجواز في بعض الأحوال.
قال في "فتح الباري" في "باب الجريدة على القبر": قال ابن المنير في الحاشية: أراد البخاري أن الذي ينفع أصحاب القبور هي الأعمال الصالحة، وأن علو البناء والجلوس عليه وغير ذلك لا يضر بصورته وإنما يضر بمعناه إذا تكلم القاعدون عليه بما يضر مثلا.
وقال في "باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور": أي هذا باب في بيان كراهية اتخاذ المساجد على القبور فإن قلت يأتي بعد ثمانية أبواب باب بناء المسجد على القبر فما وجه هذين البابين قلت وجه ذلك أنهما في الحكم سواء غير أنه صرح بالكراهة في ترجمة هذا الباب واكتفى هناك بدلالة حديث الباب على الكراهة وقيل الاتخاذ أعم من البناء فلذلك أفرده بالترجمة ولفظها يقتضي أن بعض الاتخاذ لا يكره فكأنه يفصل بين ما إذا ترتب على الاتخاذ مفسدة أم لا.
وإن كان ابن حجر نفسه يعارض هذا القول فإن عليه جل الشافعية؛ ومنهم العلامة زكريا الأنصاري في كتابه "أسنى المطالب"، حيث يقول: وكما يكره البناء عليه يكره بناؤه؛ ففي رواية صحيحة نهى أن يبنى القبر ( بل يهدم ) البناء الذي بني ( في ) المقبرة ( المسبلة ) بخلاف ما إذا بني في ملكه.
ومنهم شمس الدين الرملي الذي يذكر في كتابه "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" مسألة الكتابة على القبور ويرى أنها قد تندب، مع أنها مما صرح الحديث بالنهي عنه؛ وذلك في الذي أخرجه الحاكم في المستدرك: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبر، أو يجصص، أو يقعد عليه، ونهى أن يكتب عليه. يقول الرملي: نعم يؤخذ من قولهم إنه يستحب وضع ما يعرف به القبور أنه لو احتاج إلى كتابة اسم الميت لمعرفته للزيارة كان مستحبا بقدر الحاجة، لا سيما قبور الأولياء والصالحين فإنها لا تعرف إلا بذلك عند تطاول السنين.
ويقول ابن عابدين من الأحناف في "رد المحتار": وقيل لا يكره البناء إذا كان الميت من المشايخ والعلماء والسادات.
وأما المالكية فقد أشبعوا المسألة بحثا وتفصيلا:
يقول النفراوي في "الفواكه الدواني": والحاصل أن البناء على القبر على ثلاثة أحوال، وهي في البناء على خصوص القبر؛ لأنه حبس على الميت، وأما القبب ونحوها مما يضرب على القبر فلا شك في حرمتها في الأرض المحبسة على دفن الأموات لما في ذلك من التحجير على ما هو حق لعموم المسلمين. وكما يكره البناء على القبور على الوجه المذكور يكره تجصيصها أي تبييضها خلافا لأبي حنيفة لما رواه مسلم وغيره من نهيه عليه الصلاة والسلام عن تجصيص القبر والبناء عليه، وما ورد أيضا من أن الملائكة تكون على القبر تستغفر لصاحبه ما لم يجصص فإن جصص تركوا الاستغفار ، وعلى هذا كله الإشارة بقول خليل عاطفا على المكروه: وتطيين قبر وتبييضه وبناء عليه وتحويز فإن بوهي به حرم ، وجاز للتمييز كحجر أو خشبة بلا نقش وإلا كره .
ويقول العدوي في حاشيته على "كفاية الطالب الرباني" للمنوفي: قوله: "ويكره البناء على القبور"، أي كقبة أو بيت أو سقف وكذا حواليه لما فيه من التفضيل على الناس.
قوله: "ظاهره مطلقا"، أي ظاهره أنه يكره مطلقا أي في جميع الحالات .
وقوله: "بل فيه تفصيل"، خلاصته أن محل الكراهة إذا كان بأرض موات أو مملوكة حيث لا يأوي إليه أهل الفساد، وجرد عن قصد المباهاة ولم يقصد به التمييز وإلا حرم فيما عدا الأخير، وجاز في الأخير كما يحرم في الأرض المحبسة مطلقا كالقرافة.
ويقول المواق في "التاج والإكليل": ابن رشد: البناء على نفس القبر مكروه وأما البناء حواليه فإنما يكره من جهة التضييق على الناس ولا بأس به في الأملاك. وقال اللخمي: لا بأس بالحائط اليسير الارتفاع ليكون حاجزا بين القبور لئلا يختلط على الناس موتاهم مع غيره ليترحم عليهم ويجمع إليهم غيرهم .
وليس لأحد أن يدفن في مقبرة غيره إلا أن يضطر فلا يمنع لأن الجبانة أحباس لا يستحق أحد فيها شيئا .
وأفتى ابن رشد بهدم ما بني في مقابر المسلمين من الروضات والقباب إلا إن كان في ملك بانيها فلا يمنع.
ابن عرفة إن كانت حيث لا يأوي إليها أهل الفساد.
وقال الحطاب في "مواهب الجليل": وأما البناء الذي يخرج عن حد المباهاة فإن كان القصد به تمييز الموضع حتى ينفرد بحيازته فجائز وإن كان القصد به تمييز القبر عن غيره فحكى أبو الحسن عن المذهب قولين: الكراهة، وأخذها من إطلاقه في المدونة، والجواز في غير المدونة والظاهر أنه متى قصد ذلك لم يكره.
خلاصة المسألة إذن، أن البناء جائز إذا كان حول القبر وليس فوقه، وكانت الأرض مملوكة للباني ولم يقصد به المباهاة؛ ويكره إذا كان في أرض موات أو يأوي إليه أهل الفساد؛ وأما إذا كان في أرض وقف أو قصد به المباهاة فإنه يحرم.
ومن تأمل المسألة علم أن العلماء لم يأخذوا هذا التفصيل من عند أنفسهم، وإنما أخذوا جواز الدفن في البيوت (ولا فرق بين تقدمه على البناء وتأخره عنه) من دفنه صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها ولم يعترض أحد من الصحابة أجمعين؛ ولا حتى أم المؤمنين التي هي راوية الحديث الذي استشهد به هذا المجهول؛ كما أنها لم تعترض بعد ذلك على دفن سيدنا الصديق وأذنت لسيدنا الفاروق رضي الله عنهما.
ذلك كله فضلا عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم في الدارين، ولا يتأتى أن يجري عليه ما تنهى عنه شريعته. ومن ذلك أن القبر الشريف أصبح الآن داخل المسجد، فلا يقر في عقل مسلم أن ذلك حرام.
أخذ العلماء أيضا من شروط جواز البناء أن تكون الأرض المبني فيها ملكا للباني، من كونه صلى الله عليه وصاحباه رضي الله عنهما دفنوا برضى صاحبة البيت حتى أن الفاروق رضي الله عنه أصر على استئذانها.
وأما الأحكام الأخرى فالمقاصد منها بادية والقواعد المتبعة في استنباطها واضحة لأهل هذا الفن.
هذا ما رأينا أنه من الواجب علينا بيانه؛ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيِيَ عَنْ بَيِّنَةٍ.