على امتداد ما يقارب قرن من الزمن ما زالت الافرانكوفونية ايديولوجيا وعقيدة حريصة على منع الشعوب الافريقية من التعلم والتدريس بلغاتها الوطنية وترقيتها وتطوير ثقافاتها المحلية كمدخل أساسي لترقية كياناتها القومية وشخصيتها الحضارية التي تبلورت عبر سيرورة تاريخية ولغوية غنية، ولا تزال هذه الافرانكوفيلية في موريتانيا حريصة على هدر وإضاعة كل فرصة تطويرٍ للغاتنا الافريقية التي تمثل في حقيقتها تراثا إنسانيا غنيا وثروة ثقافية بحجم ما تمثله القارة الافريقية في العالم. والاخطر من ذلك أن يستمر منع الانفرانكوفونية السياسية لدول القارة وشعوبها المبتلاة بها، من الاستفادة من اللغات الأكثر تطورا وتداولا في العالم، والأقدر على مواكبة العصر وتحولاته العلمية والمعرفية والتكنولوجية، فلا تزال نخبنا ( الوطنية) الحاكمة أو القريبة من الحكم تتعمد فرض هوليكوست لغوي وقح على مواطنينا ، و تروج بعناد يصل حد الغباء لتنمية التخلف والاستلاب والعجز اللغوي المرتبط في التجربة الانسانية العالمية بكل عمل أو استثمار يبتعد بأهله عن روح وإطار مجتمعهم وخصوصيته السوسيولوجيّة والثقافية، التي تعتبر اللغة علامتها الاولى ومحددها الأبرز.
فكل الدول التي نهضت من وهاد التخلف وزاحمت على الريادة في العالم الجديد صناعيا وسياسيا عسكريا اعتمدت لغاتها الوطنية اساسا لنهضتنا ومِنْعَتها الداخليتين، من اليابان والصين شرقًا حتى جزيرة مالطا غربًا، مرورا بالجزيرة الكورية وبقية النمور الآسيوية وشعوب البشتون والسلاجقة والساسانيين... حتى من غصبوا ارضنا المقدسة الذين عادوا من رحلة التيه باستخدام الغصب والابادة بدأت عودتهم بإحياء لغةٍ ظلت ثاوية في المعابد وكتب اللاهوت بعد انسحابها من الحياة والتداول مع المتبقي من أحفاد من أخذهم الملك الكلداني نبوخذنصر في القرن السابع قبل الميلاد سبايا معه الى بابل.
فهل يمكن ان يتصور عاقل أن رئيس بلد يشكل نقطة إشعاع ثقافي وروحي تاريخيين في منطقته، وسمعته في العلم ونشره بلغت الافاق، يبذل في ظرف بالغ الصعوبة جهودا خارقة لعقد قمة إقليمية على ارضه ويتحدث في افتتاحها بلغةٍ غير لغة بلده الرسمية، التي حددها الدستور !! ويتكلمها 500 مليون انسان ويتعبد بها ما يزيد على مليار مسلم، وهل يتصور انسان ان نخبًا مجتمعية وسياسية تمثل مواطنيها في غرفة تشريعية تقيم الدنيا وتقعدها لان التماسا ( وهو أدنى صيغ الطلب) صدر من إدارة الغرفة للمنتخبين بالحديث في مداخلاتهم داخل قبة البرلمان لمن انتخبوهم بلغتهم الام التي لا يفهم اكثر من 90% منهم لغة سواها!!
هل يعقل أننا نفكر الآن رسميا في فتح ورشات كبرى للنقاش والتشاور حول التعليم وإصلاحه في وقت تشرئب اعناق مسؤولينا حول ( خبرات) وافدة تشكل في حقيقتها جزءا من ( منتوج ) وصناعة ايديولوجيا الافرانكوفونية والاحتلال الثقافي الذي أطبق اصحابه بمخالبهم التغريبيّة على قرارنا التربوي والبيداغوجي، وشكل حضورهم قوة فرنسا ومجال نفوذها الذي هو صناعة النخب ( الوطنية) المسؤولة عن زرع أسطورة الافرانكوفونية المسؤولة عن محق هويتنا المحلية، وقتل مدارسنا ووضع جامعاتنا على هامش مدارسها وجامعاتها المتقهقرة اليوم على نحو مريع نحو ذيل التصنيف العالمي، الذي تتصدره الجامعات الناطقة بلغات العالم الحية الاخرى.
اللغة الفرنسية في القارة الافريقية اداة هيمنة ونفوذ، واداة تخلف تربوي علمي وحضاري، قبل ان تكون مشنقة استلاب وتدمير للكرامة والهوية ، تلك هي الحقيقة مهما نمقت نخب فرنسا عبارات التزييف من قبيل : ( اللغة الفرنسية لغة انفتاح وتواصل ) .