الذهنية الشرعية الشنقيطية ../ الدكتور محمد يحيى ولد باباه ​

اثنين, 04/09/2017 - 11:50
الدكتور محمد يحي ولد باباه ​

الذهنية الشرعية الشنقيطية

        ظلت الذهنية الشرعية الشنقيطية ينبوعا فياضا من التأصيل و التقعيد، حيث ازدهر فقه النوازل مخلفا مساحات كبيرة من التقعيد الشرعي الذي أغنى الثقافة الشرعية الإسلامية في أبعادها المختلفة تلك الثقافة التي يتقدم تصنيفها المعرفي كما يقول أبو الفتح الشهرستاني في الملل و النحل:  << كل مسألة يتعين الحق فيها بين المتخاصمين فهي من الأصول، ومن المعلوم أن الدين إذاكان منقسما إلى معرفة وطاعة والمعرفة أصل والطاعة فرع، فمن تكلم في المعرفة و التوحيد كان أصوليا، ومن تكلم في الطاعة والشريعة كان فروعيا، فالأصول : هو موضوع علم الكلام،والفروع : هو موضوع علم الفقه، وقال بعض العقلاء : كلما هومعقول ويتوصل إليه بالنظر و الاستدلال فهو من الأصول، وكلما هومظنون ويتوصل إليه بالقياس والاجتهاد فهو من الفروع >>

        و قد تنزلت الثقافة الشرعية الإسلامية في الربوع الشنقيطية خلال القرون الثلاثة الماضية ضمن ثنائية بسطت نفوذها عبر قطبين رئيسين داخل هذا الفضاء، هما من جهة ما يمكن أن نطلق عليه البعد الأصولي [ العقدي – الفقهي ] و البعد الصوفي، وهما البعدان اللذان أنتجا البنية المعرفية للثقافة الشنقيطية عموما و الثقافة الشرعية على وجه الخصوص

         فإذا ما أمعنا النظر في ما يمدنا به تاريخ هذه الثقافة في بلاد شنقيط، فستتبادر إلى أذهاننا تلك الأحادية التي هيمنت على هذا الطرف من الذهنية الشنقيطية خلال القرون الثلاثة الماضية، المتمثلة بالدرجة الأولى في العقيدة الأشعرية والفقه المالكي الذي يعود تجذيره وبثه في هذه البلاد،  منذ العهد المرابطي من طرف فقهاء المالكية  في القرن الخامس الهجري  مثل الإمام أبي بكر الباقلاني ( توفي 403هـ 1013م )  الذي تم الاسترشاد بتعاليم تلميذه الفقيه أبي عمران الفاسي ) توفي 430 هـ 1037م(  إمام المالكية في المغرب الأقصى و القيروان، فمنذ ذلك العهد، بسطت هذه الثقافة سلطانهما على الفضاء الشنقيطي و تنامت و تعمقت وتجذرت على مر التاريخ  بفعل الجهود الجبارة للعلماء الشناقطة، فقد أبدعوا فيها، رواية ودراية و تأليفا، الأمر الذي شكَّـــل تطورا نوعيا لإعادة إنتاج المعرفة الشرعية الإسلامية و أضاف الكثير من النبوغ و النضج و آليات الحصافة الإنسانية للفعل الحضاري الإسلامي العام.

   و ضمن هذه الذهنية الشرعية، انصهرت جميع أشكال الثقافة الشرعية التي حضرت ببلاد شنقيط، مما جعل الذات الشنقيطية تكتسي حلة مميزة تبعا لمقتضيات هذه الثنائية  ذات الطرف العقدي الفقهي من ناحية و الصوفي من ناحية أخرى، فالأبعاد الشمولية لما يمكن أن نسميه الذهنية المعرفية الشرعية الشنقيطية كجزء من الذات الإسلامية العامة، تجسدت في بنية معرفية عامة، كانت من إنتاج ظروف البداوة و طبيعة الترحال و نمط العيش، وهو في الواقع ما جعل أبعاد هذه الذات تتلخص فيما يمكن أن نسميه، الانصراف الدائم إلى ترسيخ سلطان الظاهر قبل سلطان الباطن من ناحية، و محدودية الحضور الطرقي وهيمنة المادة الروحية للتصوف الشاذلي على كل أشكال الثقافة العالمة من ناحية أخرى.

   تلك هي ملامح أبعاد البنية الشرعية العامة التي تأطرت بها الذهنية الشنقيطية، خلال القرون الثلاثة الماضية، حيث ظل كل تعاط مع أشكال الخطاب الشرعي خاضعا لهذه البنية

      و مما عبر حقيقة عن قوة و أصالة الثقافة الشرعية الشنقيطية هذا البعد المعرفي الذي تميزت به هذه الذهنية الشرعية المتمثل فيما عرف بفقه النوازل كمجال معرفي عرفته الثقافة الشرعية داخل مختلف اتجاهاتها، و كان الشناقطة مالكيون، لكننا نلاحظ مفارقة يبرزها هذا البعد الشرعي النوازلي لديهم يمليها تطبيق مدونة الفقه المالكي ذاته في بلاد شنقيط، وذلك من حيث هي مدونة حضرية أنتجتها ظروف مدنية خالصة، في حين أن البيئة الشنقيطية بيئة بدوية بما تعنيه البداوة من أبعاد، لذا فإن مجمل ملماتها ونوازلها سيختلف تماما عن الملمات والإشكالات التي قد طرحتها البيئة المدنية، وهذا ما أعطى في الواقع لنوازل هذه الربوع الشنقيطية من بلاد الإسلام نكهتها وخصوصيتها الناتجة عن الطابع البدوي المميز لبيئتها،  فهذا البعد الذي فرض على فقهاء شنقيط إنتاج فقه بدوي يراعي إكراهات البيئة، يكون قائما على عرف أصحابها وضرورات حياتهم،  هو في الواقع ما  منح هذه القوة و الحصافة في الأبعاد الشرعية للثقافة الشرعية الشنقيطية  و من أهم الأوصاف التي وصف بها البعد المعرفي ما أثبته العلامة الشيخ محمد المامي في كتاب البادية، حيث يقول: [ لأن التصانيف مدنية؛ وإنما تكلم أهلها غالبا على مسائلهم الخاصة بهم، أو على المسائل الجامعة بيننا وبينهم، وسكتوا عن غالب المسائل الخاصة بأهل البادية؛ إما لعدم تصورها عندهم، وإما لحرمة الكلام عليهم في عرف غير عرف بلدهم. ومسائل الأعراف كثيرة ولم يستغن بلد معمور عن عالم منهم، يتكلم على عرفهم، وإن لم يفرده بالتصنيف، فإنا لو سألناهم عن مسائلنا لوجب عليهم أن يسألونا عن عرفنا؛ وإما لعدم المبالاة بهم لأن التمدن عندهم واجب، والتبدي منهي عنه ]

 الدكتور محمد يحيى ولد باباه ​

 

تصفح أيضا...