اطلعت على النداء الذى أطلقه مؤخرا "ميثاق الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحراطين" من أجل إصلاح يخدم المساواة والإنصاف فى المجال العقاري، وإنها لصرخة باسم المظلومين ينبغى أن نسمعها جميعا. وإن دعوة عادلة كهذه لَتستحق منا التنويه وتقتضى المناصرة، ويجدر أن تلقى صدى إيجابيا من الجميع استجابةً وتمثّلا لقيم الأخوة والتعاون والتواصى بالحق خاصة في هذا الشهر المبارك، وذلك بالذات هو ما يدفعنى لهذه المشاركة المتواضعة.
وقد سبق أن أكدت على إلحاح هذه القضية، ونبهت فى ال"مقترحات لإقلاع موريتانيا" المنشورة منذ عام (الفصل الخاص بالعدالة الاجتماعية)، إلى خطورة الشرخ الاجتماعي في بلادنا والذى يجب أن نتداركه قبل أن يتعمق أكثر ويتسع الخرق على الراقع. وأنْ ليس لذلك التصدع من رأبٍ إلا بمواجهة أشكال الإقصاء والظلم المتراكمة على مدار تاريخنا، وخاصة بقايا وآثار الاستعباد الجائر ومظاهر التمييز بجميع أنواعها. وأن ذلك يتطلب استراتيجية وطنية ناجعة للحد من الفروق الاجتماعية، واعتماد آليات جريئة لرعاية الفئات الأشد فاقة وتمكينهم من العيش الكريم. ومن بين المحاور التى ذكرتُ للتعامل مع هذه الفجوة : "معالجة قضية الملكية العقارية للأراضى من جميع جوانبها، الاقتصادية، الثقافية، التاريخية والقانونية، من أجل تصميم وتنفيذ إصلاح توافقي يُسهّل حصول السكان الأكثر هشاشة على الملكية العقارية، بما فيها ملكية الأراضى الزراعية".
كما نشرت منذ ما يناهز عشر سنوات، مقالة حول هذا الموضوع، وهي وإن ركزت آنذاك على العقار السكَني أكثر من الأراضى الزراعية، إلا أنها تصلح بما تثيره من مفاتيح للفهم ومبادئ للمعالجة(1).. ولذا ارتأيت اليوم -في سياق مناصرة النداء المذكور أعلاه- أن أضعها من جديد بين يدي القراء (الذين قد يكون من بينهم كثيرون لم يطلعوا عليها آنذاك) -مع شيء من التصرف والاختصار.
أولا- المسألة العقارية – أبعاد متشابكة
تُعدّ المسألة العقارية واحدة من أهم موضوعات التحول الاجتماعي. وهي تشكل في بلد كموريتانيا، قضية شائكة تتداخل فيها العديد من العوامل ذات التأثير، سواء كانت عوامل تاريخية، اجتماعية، اقتصادية، قانونية أو سياسية، تتشابك لتزيد المسألة تعقيدا وحساسية.
وعلى مر العقود الخمسة (2) التى مرت على تأسيس الدولة الموريتانية المعاصرة، وبالرغم من بعض الجهود، فإن المشاكل ما فتئت تتفاقم و التراكمات تتزايد فى مؤشر على فشل "الدولة الحديثة" فى معالجة التحديات التى تطرحها هذه المسألة سواء على صعيد الإسكان أو الإستصلاح الترابى أوالاقتصاد الفلاحى، وفوق ذلك كله، على مستوى العدالة الاجتماعية والانسجام الوطني.
فى خضم تلك التراكمات، تطفو على السطح من حين لآخر نزاعات عقارية حادة فى مختلف ولايات البلد كمثل "الحوضين" و"لعصابة" و"لبراكنه" وبالطبع مناطق ضفة النهر، دون أن نستثنى بأي حال العاصمة انواكشوط. وليس من النادر أن تتطور مثل تلك النزاعات إلى شجارات عنيفة وأحيانا إلى ممارسة عنف مسلح.
ويتكرر الأمر فى تجليات مختلفة سواء أكانت نزاعات بين مواطنين، أم نزاعات بين المواطنين وبين السلطة الإدارية. حيث تتصدر الأخبارَ بشكل متكرر، وعلى مدار السنة حوادثُ من قبيل: "اشتباكات فى ولاية لعصابة على قطعة أرضية"، "اتهامات لمسؤولين عسكريين ومدنيين بالإنحياز لطرف بعينه في نزاع على أراض زراعية "، "شجار بين عشيرتين فى الحوض على ملكية بئر"... وتزداد الحساسية عندما يتعلق الأمر بأراضى ضفة النهر ذات القيمة الزراعية، والتى شهدت فى السابق أحداث عنف عرقي لمّا تندمل جراحُها، ومع ذلك تبرز من حين لآخر، عناوين خطيرة كمثل "وجهاء الضفة ينتفضون ضد مصادرة الأراضي"، " المنتدى الوطني لمنظمات حقوق الإنسان (فوناد) ينتقد مصادرة أراضي في الضفة إثر منح أراض زراعية لمستثمرين أجانب دون التشاور مع السكان المحليين" (2)... كما لا يجد المتتبع صعوبة فى إضافة نماذج تتعلق بالعاصمة من قبيل: "مظاهرات فى أحياء الصفيح فى العاصمة (كبة الميناء، الحي الساكن ...) لمواطنين يطالبون السلطات الإدارية بإنصافهم"، "شكاوى من بعض المرحلين من " الحي الساكن" حول تعويض غير عادل لقطعهم الأرضية"، "تجمهر لمواطنين فقراء أمام القصر الرئاسى احتجاجا على حرمانهم من حقهم فى الحصول على قطع أرضية"(2)... وغيرها من نزاعات هي كلها فى الصميم من إشكالات العمران والإسكان، وما تطرحه من تحديات للمنظومة العقارية.
وعلى الرغم من مضي عقود من الزمن على إصدار قانون الإصلاح العقاري (الأمر القانوني رقم:127-1983 الصادر سنة 1983 والمنشور فى الجريدة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية، عدد 5 يونيو من نفس السنة)، والذى ألغى المنظومة التقليدية القائمة على ملكية القبائل للأراضى، إيذانا بأيلولتها إلى الدولة التى تضطلع باستصلاحها وتوزيعها العادل بين المواطنين بما يمكّن المحرومين من النفاذ إلى حقهم فى التملك منها... إلا أنه بالنظر للواقع على الأرض، فإنه من الواضح أن تحديات قوية لا تزل تطرح نفسها، نظرا للبون الشاسع بين النظرية والتطبيق.
يقدّم القانون المذكور نفسَه بأنه مستخلص من الشرع الإسلامي. ويزخر نصّه بالنقاط الإيجابية البالغة الأهمية لمجتمع حديث العهد بالبداوة لا يزال يشق طريقه بصعوبة نحو التحول الاجتماعي، حيث يعلن : "الأرض ملك للوطن. كل موريتاني، بلا أي تفرقة كانت، يمكنه مع احترام القانون، أن يصبح مالكا لجزء منها"، و"الأرض الموات ملك الدولة"، و"الأرض لمن أحياها"... وغير ذلك من المبادئ التي من شأنها – إن طبقت في جوّ من القبول – أن تشكل أرضية للمساواة والسلم الأهلي والانسجام الوطني والعدالة الاجتماعية.
غير أن طبقية المجتمع وتراتبيته التقليدية لم تزل تلقى بظلالها على الواقع، وتكرّس إرثا من الغبن ينطوى على العديد من المظالم بما فى ذلك حرمان الكثيرين من النفاذ إلى الملكية العقارية، أو على الأقل صعوبة النفاذ إليها، خاصة فيما يخص فئة "لحراطين"، سواء فيما يتعلق بالأراضى الزراعية أو بالعقارات السكنية.
وليس ذلك إلا نموذجا للانعكاسات الناجمة عن أنظمة عتيقة، أصبح من الملح التحرر منها لنتمكن من العبور نحو التحول الاجتماعي المنشود. لكن ينبغى الاعتراف أن ذلك ليس من السهل، فهي أنظمة ذات علاقة وثيقة بالهيكلة الاجتماعية التقليدية، وبالعقلية الثقافية المتأصلة ومرتبطة إلى حد كبير بخصائص الحياة الاقتصادية المحلية، ووسائل الإنتاج العتيقة، وتُترجم أيضا ميزانا للتوزيع ترجح فيه كفة على أخرى، كما هي مصطبغة "بصبغة سياسية".. ولا تزال تتطلب المزيد من التحليل والدراسة، إن نحن أردنا فعلا تجاوزها و التحرر منها.
ولذلك فإن أي معالجة للمسألة ينبغى أن تتم من مختلف أبعادها، دون بترها من أيّ بعد، تاريخيا كان، أو اجتماعيا، اقتصاديا، سياسيا أو قانونيا.
ثانيا- فى البعد السياسي: الدولة والقبيلة أو النزاع الخفي على السيادة
لا يزال شيء من التعارض قائما بين السيادة العتيقة للقبائل البدويّة على الأرض، وبين سيادة "الدولة المركزية الحديثة". فإذا نحن تأملنا أي نزاع عادي بين قبيلتين حول ملكية الأرض، خاصة فى القرى والمناطق الريفية، فإننا سنجد أطرافا ثلاثة: القبيلتان المتنازعتان، بالإضافة للطرف الثالث الذى هو "الدولة الوطنية". والأخيرة – بوصفها تعتبر نفسها صاحبة السيادة على سائر "التراب الوطني" – تكاد تبدو وكأنها عنصر غريب "يتسلل" بين هذين الطرفين التقليديين، إذ غالبا ما تبقى سيادتها على الأرض تجريدية واعتبارية.
أما الأطراف التقليدية، ولو أن كل واحد منها يعطى الأصالة والأولوية لسيادته على "أرضه" فوق سيادة "الدولة" إلا أنه عند الحاجة، يعترف ب"الدولة" ويلجأ إليها، من خلال السلطة الإدارية التى تمثلها.
وهكذا لا تجد الدولة العصرية غالبا إلا أن تستسلم للعب هذا الدور البرّاق والمحدود، ألا وهو دور الحَكَم بين طرفين تقليديين، هذا في حال كونهما لا يكادان يعترفان بها في العمق، بل وفي حال كونها هي بالذات طرفا واقعيا في النزاع على السيادة.
و كتعبير عن البعد السياسي للملكية العقارية، فإنه إذا تأملنا طبيعة الملكية التقليدية للأرض فى قرى الداخل (فيما سوى منطقة النهر التي لها خصوصياتها وإشكالياتها ذات البعد الاقتصادي البارز بسبب أراضى الزراعة، فيضية كانت أم مروية) ، لوجدنا فى الأغلب أن القرية بمساكنها تنعقد عليها ملكية مركبة : الملكية الشخصية، أي ملكية الأفراد، ولكن هذه الملكية تندرج تحت ملكية أشمل أي أنها تدخل في نطاق شكل من الملكية الجماعية، هي ملكية القبيلة و"سيادتها" على هذه الأرض.
أما خارج المساكن، فإن الملكية المنعقدة على الأرض هي أساسا ملكية القبيلة (إلا ما عرف بانعقاد ملكية فردية عليه). ونتحدث هنا طبعا عن الإرث التقليدي. إذ القبائل كانت فى الواقع كيانات سياسية شتى لكل منها السيادة على أراض ما، وهي "السيادة" التى ظلت قائمة ضمنيا، ولو بشكل جزئي، فى تزاحم مع سيادة الدولة.
وبهذا المعنى، بدَت "الدولة الوطنية" المعاصرة كخصم ضمني لكل واحدة من القبائل. و ما فتئ ارتباك الدولة فى هذا المجال إن لم نقل حيرتها وعجزها عن توضيح دورها، أمرا مشهودا. هذا فضلا عن الفشل فى إقناع القبائل بجدوائية هذا الدور وبما يمكن أن يعود به من نفع عام على الجميع. ولعل ذلك يفسر عجزا آخر أشمل، عن أن تقدم "الدولة الوطنية" نفسها بديلا تنصهر فيه سائر المجموعات والقبائل، وتتلاشى سيادة كل منها لتفسح المجال أمام سيادة الدولة ككيان سياسي مركزي موحد، وتفرض مكانتها بوصفها الكيان الذى يجسد إرادة ووحدة المجتمع، لها وظائف ومسؤوليات ووسائل وامتيازات ليس من المقبول أن تزاحمها فيها كيانات موازية...
وكما قلنا سابقا، فإن النزاعات القبلية أو العشائرية على الأرض مهما خبت حينا فهي قابلة للطفو من جديد على السطح. فكم مرّة ينشأ خلاف في بقعة ما من "الحوض"، لعصابة" أو "لبراكنة" أو غيرها من المناطق، بين قبيلتين كانتا في تعايش وحسن جوار، وذلك على سبيل المثال، لأن أفرادا من القبيلة (أ) شرعوا فى حفر بئر أو نشطوا من أجل بناء سد عند ملتقى بعض الأودية وحصلوا على تمويل لهذا الغرض، وهنا تعترض القبيلة (ب) على هذا الاستثمار مؤكدة أن الأرض ملك لها، وأن حفر تلك البئر أو بناء ذلك السد مساس بسيادتها وبالتالي فهو مرفوض.
أما "الدولة" فلربما تظل تتفرج على الخلاف حتى يؤول الأمر إلى نشوب نزاع، وعند ما تقرر أن تتدخل فإن المسؤولين الإداريين نادرا ما يكونون كاملى الوعي بالدور الذي يلزم أن يضطلعوا به ، أما التجرد من كل انحياز (مهما استبعدنا شبهات استغلال النفوذ والارتشاء وشراء الذمم) فيبقى أمرا نادرا.
أضف إلى ذلك اعتماد بعض النخب السياسية وحتى الإدارية على المنظومة القبلية، وعلى شيوخ القبائل فى المواسم الانتخابية كوسطاء و"ناخبين كبار" يحشدون بقية الناس على عمى، وكذلك أيضا اعتماد بعض النخب على نفس المنطق للفوز بتمثيل القبائل فى "كعكة التعيينات" (حيث درجت بعض الأنظمة على اتباع معايير مؤسفة من المحاصصات والتوازنات القبلية فى بعض التعيينات الحكومية)، وذلك كله مما يؤسس لعلاقة زبونية تحُدّ من قدرة الدولة على إحلال سيادتها الجامعة محل "السيادة" القبلية الضيقة.
ثالثا- المشكلة العقارية فى العاصمة - مرآةٌ للتحول الاجتماعي؟
بعد مضي أكثر من نصف قرن(2) على تأسيس الدولة الحديثة وإعلان استقلالها، لا تزال الأنظمة العتيقة تخيم على الحياة الاجتماعية. ولم تستطع الدولة الموريتانية أن تؤمّن لمواطنيها العبور إلى حياة عصرية كتلك التى تكفل بموجبها "الدولة الحديثة" للمواطن الحماية والرعاية وغيرها من مقومات المواطنة التى تضم، فى أبسط صورها، الإنصاف للجميع والتمكين من حقوق التملك بما فيها حق النفاذ إلى الملكية العقارية دون تمييز.
ويتجلى ما سبق بشكل صارخ فى العاصمة انواكشوط التى شهدت وتشهد نموا مشوها يجسد مستوى غير مسبوق من الفوارق الاجتماعية وأشكالا من المظالم جديدة على المجتمع.
تعانى انواكشوط، على الرغم من توسعها الأفقي، من اكتظاظ سكاني لم يزل يغذيه نزوح جماعي متواصل من الداخل، بفعل جملة من العوامل من بينها موجات الجفاف المتكررة والبطالة وتفاقم الفقر فى المناطق الريفية مع إحساس بتخلى الدولة عنها، فى ظل تركيز الاهتمام على العاصمة، واستحواذها على الوسائل والموارد. ومع مرور السنين تفككت أنظمة الانتاج العتيقة، وترك الناس الكثير من الأنشطة التى كانوا يزاولونها، وشيئا فشيئا هجروا قراهم منجذبين إلى سراب العاصمة حيث تتركز السلطة ووسائل الدولة الحديثة، أملا أن ينالوا من "رغد العيش" في كنفها.
ولنتصورَ تسارع النمو المشوه للعاصمة، يكفى أن نستحضر أن تعداد سكانها قفز من بضع مئات فقط لدى نشأتها قبل عقود إلى ما يزيد على ربع سكان البلد، دون أن يصحب ذلك إنجاز البنى التحتية والمرافق (من شبكات طرق ومياه وكهرباء وصرف صحي ومن حماية مدنية، ووسائل إخلاء وإغاثة، الخ) التى تتطلبها مثل هذه الكثافة السكانية. وكما هو معلوم، فقد تم النزوح المذكور بشكل فوضوي يترجم العقلية السائدة والتباطأ المشهود فى حصول التحول الاجتماعي، كما يشي بفشل الدولة ونخبها فى تجسيد عقد اجتماعي جدير بهذه التسمية. فلا تزال رواسب البداوة و تراتبية المجتمع التقليدي حاضرة إن لم نقل مهيمنة، وتمتزج فى نفس الوقت مع بعض مظاهر المدنية الحديثة -خاصة السلبي منها- لتولد أنساقا مشوهة مبتورة لا هي بالأنساق التقليدية ولا هي بالأنساق العصرية.
ونتيجة لضعف التخطيط فى السياسات (بما في ذلك سياسات الإسكان وفقدان حتى أبسط متطلبات التخطيط العمراني) وما صاحبه من صعوبة النفاذ إلى الملكية العقارية، خاصة بالنسبة للشرائح الضعيفة من المواطنين، تنامت على مدى السنين ظاهرة السكن العشوائي أو ما يسمى "الكزرة" التى بدت كأنها رد شعبي عفوي على الصعوبات الجمة التى كانت تعترض عشرات الآلاف من المواطنين ممن وجدوا الأبواب موصدة أمام توقهم المشروع إلى المسكن اللائق.
ولعل تلك الظاهرة، وإن كانت بدأت فى أول أمرها كإبداع شعبي جاء تعبيرا عن "التمرد" على الوضع القائم أو الالتفاف عليه وعلى تعقيدات القانون العقاري وأسلوب تطبيقه الذى لم يخدم للأسف العدالة الاجتماعية (فى حين يُفترض أنها روح القانون)، إلا أنه بدا أيضا أن بعض المنتمين للطبقات الوسطى من الميسورين نسبيا وحتى من الأقلية الثرية ذات الباع الطويل، لم يترددوا هم أيضا فى استخدام أسلوب "الكزرة" ليقلِبوه لصالحهم على نطاق واسع من أجل الاستحواذ على مزيد من العقارات(2).
ولا شك أن ذلك مما زاد من تعقيدات المشكلة.. وهكذا، مع صعوبة النفاذ للملكية العقارية بالنسبة للشرائح الضعيفة، شهدت العاصمة تراميا فى تمدّدها وتكاثرا فوضويا لأحياء الصفيح فى مختلف أطرافها، بحيث بلغت حدا من الانتشار لا يطاق، واتسم وجهها بطابع من البشاعة يُجسده صفيحها الغير لائق وأزقتها الضيقة الملوثة بالأوساخ والماء الآسن، والمحفوفة أحيانا بمخاطر الأسلاك الكهربائية المنسحبة بإهمال على الأرض، وبخلاصة انعدمت فيها أبسط المقومات الحضرية، وازدحمت فيها بكثافة المساكن الغير ملائمة والغير مرخصة(2)...
صحيح أن الدولة، ومع التمويلات الدولية الكبيرة والمتتالية لمشاريع التأهيل لتلك الأحياء (والتى أنشئت من أجلها وكالة التنمية الحضرية أواخر التسعينات) قد أدركت خطورة هذه الوضعية وعملت- ولو ببطء- على تداركها و الحد من الممارسات الفوضوية، غير أنها لم تف بكل ما وعدت به فى هذا المجال خاصة لمناطق "الترحيل" المعزولة... وعسى أن يتم إنجاز المزيد من أجل توفير الخدمات الأساسية وتحقيق الحد المقبول من شروط الحياة الكريمة ونفاذ الجميع إلى السكن اللائق.
ختاما – "إن الله لا يقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيهم حقّه !"
يتبين بالمحصّلة من كل ما سبق، أن البلد فى ظل "الدولة الحديثة"، طالما افتقد منظومة شفافة، عادلة ومفتوحة لتوزيع الأرض ونفاذ الجميع إلى ملكيتها، فى مساواة أمام القانون، ودون تمييز. وذلك ما يتعارض برمته مع المسلمات الدينية والثقافية المتعارف عليها لدى الناس إلى وقت قريب، حيث لم يزل يُنظر إلى ملكية قطعة من الأرض، للبناء مثلا، كحق بسيط لا يُستساغ الحرمان منه. خاصة فى عالَم الصحراء الشاسعة وثقافة الأريحية البدوية...كما يجد ذلك سنده فى الأثر أيضا مما رواه الإمام الشافعي فى كتابه "الأم" أنّه "لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أقطع الناس الدور، فقال حيّ من بني زهرة نكب عنّا ابن أمّ عبد.. فقال رسول الله (ص): فلم ابتعثني الله إذا؟ إن الله لا يقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيهم حقّه". لقد أراد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن تتحرر الذهنية من ضيق العشائرية والقبلية إلى رحابة الأمة والوطن المنتظم فى عقد اجتماعي جديد يسمو على الانتماءات العتيقة. وقد استدلّ الشافعي -رحمه الله- بالحديث المذكور، على أنّ ما قارب العمران وكان بين ظهرانيه ممّا لا مالك له، فيتعين على السلطان إقطاعه لمن سأله من المحتاجين.
وتلك الأخلاقيات بالذات هي التي ينبغي أن نستحضرها لإطلاق حوار مجتمعي بنّاء حول المسألة بمختلف جوانبها، عسى أن تتذلل العقبات في وجه التحول الإجتماعي المأمول، ويتيسّر المضي فى تطوير وتبنّى رؤية جديدة وبنية للمجتمع تأبى التمييز والتفاضل القائم على معايير وراثية، وتضع حدا لتهميش فئات بعينها وأخص بالذكر منها فئة لحراطين... فلْنسعَ جميعا لهذا التحول الإجتماعي الذى بموجبه تعبُر البلاد من ضيق الانتماء القبلي والفئوي إلى رحابة المواطنة ودولة القانون.
والله المستعان.