توقعت ” أولجاجود بريتس ” نائبة رئيس الوزراء الروسي لشئون الأسرة والمجتمع حدوث تأثيرات كارثية لتدهور الأحوال المعيشية للطبقات الوسطى ، وذلك بعد أن أظهرت دراسة لمركز الرصد الاجتماعي الاقتصادي أن الروس عادوا إلى الوراء عشرين سنة ، وأعادوا للحياة ممارسات قديمة لتعويض النقص الحاد في الدخول ، ومواجهة زيادة النفقات الإلزامية وارتفاع الأسعار المتواصل .
وبلغ عدد ” المعدمين ” في روسيا أكثر من 22 مليون فرد .
حدث ذلك كله بعد سقوط الاشتراكية ، وتفكك الاتحاد السوفيتي ، وربما ستكون شهادتي مجروحة وأنا أدافع عن الاشتراكية التي وصفها مفكرون بالاشتراكية الواقعية التي قامت في بلدان المنظومة التي سقطت ، سقطت في ظل عجز فاضح للاشتراكيين الذين لم يدافعوا عنها كما ينبغي ، وكشف عجزهم هذا عن فساد مستشر ، وخراب عام أتاح لمخابرات الدول الاستعمارية التي أزعجها نجاح التجربة الاشتراكية في تحسين مستوى معيشة العمال والفلاحين والطبقة الوسطى ، أن تعمل ضدها بمهارة .
كنت قد زرت كلا من الاتحاد السوفيتي وبلغاريا وألمانيا الديموقراطية ، وتعرفت عن قرب على مستوى الخدمات التعليمية والصحية والثقافية ، فضلا عن الإسكان والنقل.
ولفت نظري في الميدان الإعلامي ذلك الاهتمام الواسع بثقافة ولغات بلدان حركة التحرر الوطني صغيرها قبل كبيرها . وانتشرت الإذاعات الموجهة بلغات هذه البلدان والتي قام عليها متخصصون ، وجرى تكوين أجيال وراء أجيال من المترجمين والمترجمات الذين نقلوا بعض أهم آداب هذه البلدان إلى اللغة الروسية ، ونشأت صداقات وثيقة بين الكتاب والفنانين السوفيت ، والكتاب والفنانين العرب .
واندثر كل هذا تدريجيا بعد سقوط وتفكك الإتحاد السوفيتي ، ثم نشوء روسيا كواحدة من أغنى دول العالم بالثروات الطبيعية .
لم يكن غضب المثقفين السوفيت بسبب قمع الحريات خافيًا ، كذلك كان بوسع أي زائر مهتم أن يلحظ لامبالاة وخوفا في أوساطهم ، وبعد الانهيار قال واحد من كبار المثقفين السوفيت ، إن اللامبالين أشد خطرا من الأعداء وقد تبين هذا الخطر في الممارسات اللاحقة ، وفي الواقع الجديد الذي تصفه تقارير المراكز العلمية .
وعلى الضفة الأخرى قال المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي إن انتخاب ” دونالد ترامب” رئيسا للولايات المتحدة دفع العالم كله خطوة جديدة نحو الانحطاط .
وقبل سنوات حذرنا ” جاج لانج ” وزير الثقافة الفرنسي من تفشي الثقافة الأمريكية التي ستقود العالم نحو الانحطاط ، ويدعو كل من ” تشومسكي ” و” لانج ” شعوب العالم لمواجهة هذا الخطر المحدق بالبشرية كلها .
انهارت التجرية الاشتراكية الأولى إذن بسبب الخراب الداخلي أولا ، وهو ما أججته المؤامرات الخارجية التي لم تهدأ منذ اندلاع الثورة الاشتراكية عام 1917.
وكشفت الرأسمالية بعد هذا الانهيار عن وجهها القبيح بعد أن تخلصت من خطر المنافسة مع مشروع النظام البديل ، ولم تعد خائفة من شبح الاشتراكية ، وباتت الإنسانية كلها مهددة بالنزعات العدوانية للرأسمالية الوحشية ، ومن المهم أن نذكر هنا أن ” ترامب ” قد رفع ميزانية التسليح الأمريكية بنسبة 10% ، وأن مخابرات أمريكا والاتحاد الأوروبي ضالعة في تأهيل وتسليح المنظمات الإرهابية على مستوى العالم ، وهذه المنظمات مكلفة ـ ضمنيا ـ بتعطيل التطور الديموقراطي في البلدان التعيسة التي وقعت في قبضتها مستثمرة حصاد الفساد والاستبداد الذي حكم هذه البلاد طويلا .
ماذا نفعل إذن نحن الذين حلمنا طويلا بعالم تسوده العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية لكل البشر ؟
ردا على هذا السؤال انخرط ملايين البشر في البحث عن طريق ثالث يتجاوز كلا من الاشتراكية والرأسمالية ، ووجد هذا الرد قبولا لدى أحزاب وقوى إجتماعية ومفكرين ومناضلين أفراد ، ولكن سرعان ما انزلقت حركة الطريق الثالث إلى الرأسمالية الصريحة ، بل وإلى الليبرالية الجديدة مع تجميل وجهها قليلا بلمسات من دولة الرفاة الإجتماعي التي واجهت بدورها مأزقا كبيرا بعد انهيار كل من المنظومة الإشتراكية وتآكل حركة التحرر الوطني ذات التوجهات الإجتماعية الراديكالية .
وليس من العدل ولا من العلم في شيء أن نساوي بين مشروعي الرأسمالية والاشتراكية فهما بالقطع نقيضان ، وفي ظني أن كل الحركات الاجتماعية والصيغ الحزبية الجديدة ، وأساليب النضال الديموقراطي المبتكرة ، وانتفاضات وثورات الشعوب قد تعلمت جميعها من كبوة الإشتراكية ، ومن إنجازات الرأسمالية في ميدان العلم والحرية ، ومن الواقع الذي نعيش فيه وهي تتطلع إلى تحقيق الهدف القديم الجديد الذي بلورته مجدداً موجات الثورة التي أطلقها الشعب المصري في 2011 و2013 : عيش ـ حرية ـ عدالة اجتماعية ـ كرامة إنسانية ـ دولة مدنية .
ونتذكر الآن ، وقد انقضى قرن من الزمان بالتمام والكمال على الثورة الاشتراكية الأولى، أن أهداف الإشتراكيين لم تتغير ، ولكن تغيرت الطرائق ، وتعلم الاشتراكيون أقسى الدروس ولكنهم سوف يواصلون النضال .
صحيح أن الاشتراكية موضوع مشروع مؤجل ولكن يستحيل شطبه من على جدول أعمال الإنسانية.
فريدة النقاش