-1- في نهار أول أمس، جاءني سكرتير مكتبي بخطاب من مجلس الصحافة والمطبوعات.
ظننت أنّه استدعاءٌ بسبب شكوى أو مُلاحظات من لجنة الرصد، ولكن سُرعان ما تملّكتني الدّهشة والحيرة حينما قرأت نصَّ الخطاب الذي جاء فيه الآتي:
(بتاريخ ٢٣/٧/ ٢٠١٧ م تقدم السيد/ إدريس موسى (مُحتسب) بشكوى ضد صحيفة (السوداني)، مفادها أنّ الصحيفة نشرت في الأعداد بتاريخ 1 /7 – 4/7 -6/7 – 7/7 – 10/7 – 11/7 – 16/7 – 20/7 – 23/7/ ٢٠١٧م في صفحة “كوكتيل” صوراً نسائيةً مُنتقاة لنساءٍ جميلات، وبعضهن في وضعٍ صوريٍّ جاذبٍ ولافت، الأمر الذي يَتعارض مع تعاليم ديننا الحنيف، ويُعرِّض الرجال عامّة والشباب خاصّة للفتنة والوقوع في محظور عدم غض البصر).
-2-
طلبتُ من الأخ إيهاب بادي، إحضار الأعداد العشرة المُشار إليها في خطاب المجلس، راجعت الأعداد وتملّكتني الحيرة أكثر.
لم أجد صورةً واحدةً عاريةً أو غير لائقة أو شاذَّة عن ما هو سائدٌ في المُجتمع السوداني.
بعضُ الصور لنساء يرتدين الثياب السودانية المعروفة (توب خالتي وخالتك وعمّتي وعمّتك وأختي وأختك)، والأخريات بأزياء عاديَّة، تجدُها في الشارع العام، وفي الجامعات والمُواصلات ولا تُثير استياء عامّة الناس أو انتباههم.
والأغرب من كُلِّ ذلك، أنّ أغلب الصور لمذيعات يظهرن بذات الأزياء في الفضائيات السودانية (صورةً وصوتاً وحركةً).
-3-
إذا أعدت عزيزي القارئ قراءة ما جاء في خطاب المجلس، ستُفاجأ مثلي بكُلِّ تأكيدٍ بأنّ الاعتراض أو موضوع الاحتساب لا علاقة له بالزيِّ أو الحركات المُصاحبة للصور!
كل مُشكلة المُحتسب ولجنة الشكاوى، التي تُريد إلزامنا بنشر نص التّأنيب كعقوبة أدبية في حق الصحيفة، أنّ النساء اللائي يتمُّ نشر صورهن (جميلاتٌ وجاذباتٌ ومُلفتاتٌ للنظر)!
ربما تبلغُ بك الحيرة عزيزي القارئ لتتساءل: هل ما وَرَدَ في خطاب مجلس الصَّحافة مُوقّعاً عليه باسم بروفيسور محمد جلال محمد أحمد، تقريعٌ للصحيفة أم غَزلٌ في صاحبات الصور؟!!
سمعنا وعرفنا أن أوجه الاعتراض ومصدر التحفظ في العادة يتم على الصُّور المُرتبطة بالأزياء الفاضحة، ولكن لأوّل مرَّة نعلم أنّ هنالك عُقوبات على خِلقة الله (الجمال والجاذبية)!
هذا يعني بمفهوم المُخالفة في علم أصول الفقه، أنه إذا كانت الصور لنساء غير جميلات ولا جاذبات، فلا مانع من النشر!
سؤال للمحتسب وللجنة الشكاوى التي تبنَّتْ وجهة نظره الشاذة:
هل التشريعات المُتعلِّقة بالنساء تُميِّزُ بين الجميلات والقبيحات؟!
وهل من الدين والذوق والأخلاق اعتماد هذا التصنيف (جميلات وقبيحات)؟!
مالكم كيف تحكمون؟!
-4-
لا نقبل لأنفسنا ولا لصحيفتنا نشر صور خادشة للحياء أو جارحة للشعور العام.
دعونا نتّفق:
لا أحد يُجادل في حقيقة أنّ مقاييس الجمال والجاذبية، مقاييس نسبية تختلف من شخصٍ لآخر ومن مجتمع إلى مجتمع.
المقاييس مُختلفة بين المُحتسب (مُقدِّم الشكوى) وأعضاء لجنة الشكاوى، وأنا وأنت والشاعر محمود درويش الذي قال:
الجميلات هنَّ الجميلاتُ
الجميلات هنَّ الضعيفاتُ
“عرشٌ طفيفٌ بلا ذاكرة”
الجميلات هنَّ القوياتُ
“يأسٌ يضيء ولا يحترق”.
في ذات الصفحات تجدُ صوراً لرجالٍ مثل لاعبي كرة القدم، ويرتدون شورتات قصيرة، هل من حقِّ مُحتسب آخر أن يتقدَّم بشكوى للمجلس باعتبار أنّ صورهم: (تُعَرِّض النساء عامة والشابات خاصة للفتنة والوقوع في محظور عدم غض البصر)؟!
من حق أيِّ فردٍ أن تكون له وجهة نظر في الأزياء والملامح، ولكن ليس من حقِّ المُؤسَّسات تبنِّي وجهة النظر تلك، وتطبيقها بصورة انتقائية مُرتبكة ومُتعسِّفة.
السؤال الذي لن نجد له إجابة:
أين كان مجلس الصحافة ولجنة رصده، حينما نُشِرَت تلك الصور في عشرة أعداد؟ هل كان يراها صوراً عاديةً لا تستحق التنبيه والتأنيب، أم كان في انتظار ذلك المُحتسب المجهول، ليُحدِّد مقاييس المُعتاد والشاذ؟!
هذا أوضح نموذجٍ لعشوائية واختلال معايير لجنة بروف جلال.
ضعوا معايير جامعة ومانعة، لنشر الصور، وألزموا بها الجميع، فهذا أفضل من ترك الأمر لاجتهادات أصحاب الأمزجة الغريبة عن مُجتمعنا.
-5-
ما لا يُقاس أو يُحَدّد بدقة لاختلاف التقديرات والأمزجة، يجب ألاّ يُحاكم به الأفراد والمُؤسّسات على سبيل القطع والإلزام.
أسوأ ما في هذا (الكيس)، لا استسهال العقاب من قِبل المجلس، ولكن أن تصدر قراراتٌ عقابيةٌ في حقِّ مُؤسّسة من منطلق ميول وأمزجة فردٍ مُتطرِّفٍ، يُمالئه آخرون على سبيل المُجاملة التي تفتقد للمنطق والحكمة والعدل أو خضوعاً للابتزاز وثقافة الترهيب .
-أخيراً-
ولأننا لا نقبل الظلم، ولا نرضى المُجاملة على حسابنا، ونرفض سيادة تلك الأمزجة، لذا قرّرنا الامتناع عن نشر التأنيب، واستئناف القرار لدى محكمة الصحافة والمطبوعات.
ضياء الدين بلال
للقراءة من المصدر اضغط هنا