قد لا يغيب عن ناظر أحد أن الأبعاد التاريخية لماضي الإنسان بصورة عامة، تمثل أبرز المميزات التي يتسم بها الوجود البشري، فالإنسان على خلاف بقية الكائنات، لا يمكن أن يعيش في أفق مسدود في لحظات حاضره فحسب، بل لابد له أن يدرك قدرته على العودة إلى الماضي ليتمثل حوادثه أو يتوجه نحو المستقبل لتجسيد طموحاته، لذلك نجد البشرية قد سعت - منذ القدم - إلى تدوين ماضيها من أجل الحفاظ على تراثها و أخذ العبرة منه؛ و ذلك بطبيعة الحال ما أبرز بشكل واضح ما عرف باكتشاف الكتابة الذي كان عاملا حاسما في ظهور عملية التأريخ لماضي الإنسان، و إعادة كتابة تاريخ الأمم و الشعوب و إعادة تشكيل الوعي الحاضر لها.
و كسبيل لاستجلاء ما تنطوي عليه عملية كتابة تاريخنا من مخاطر ذاتية و أيديولوجية، ينبغي لمؤريخينا تجنبها، نذكِّر هنا بما يقرره الفكر المعاصر، مثلا حول عملية كتابة التاريخ ذاتها وذلك باعتبارها ليست " قائمة على قص ما حدث نقلا عن وثائق مخطوطة، ولكنها قائمة فيما نريد أن نكتشفه " الأمر الذي يضعنا أمام إمكانيات هائلة للانزلاق في إعادة بناء هذه الأحداث و تفكيكها، لتقديمها على وجوهها الصحيحة كما حدثت في الماضي، و ما أنتجته من تغيرات شاملة على الساحة العامة للمجتمع.
إنه من نظرة شمولية لما كتبه المؤرخون الموريتانيون حول ماضيهم يتبين، فعلا أن مجهودهم أبرز زخما كبيرا لذاكرة هذه الأمة و تراثها الثري على مختلف الأبعاد، وخاصة ألئك الذين عكسوا لنا الواقع الفكري لمنجزات الشناقطة العلمية و الأدبية و الفنية داخل الحراك الاجتماعي و السياسي العام، عبر التاريخ ـ على الأقل ـ منذ دخول الإسلام في القرن الأول والثاني للهجرة، على يد الفاتح عقبة ابن نافع الفهري المتوفى 63 هـ ( 686 م) إلى أيامنا هذه، فما من شك أن ذلك يدعونا فعلا إلى الاعتزاز بهذا المجهود الكبير الذي دشنه مؤرخونا على مر العصور من بنيات كبيرة على طريق التفكير المتجدد في التاريخ الثقافي لموريتانيا من أجل إعادة بناء وعيها في فترات كانت في أشد الحاجة إلى ذلك.
لكنه من الجلي في واقعنا المعاصر أن فعل إعادة كتابة التاريخ يجب أن يمثل مجهودا متواصلا لا يعرف الفتور و الكلل وذلك خوف السقوط في مآسي إعادة استهلاك ما شيده المؤرخون السابقون بصورة سلبية تؤدي بفعل التفكير المتجدد في التاريخ إلى الثبات المبتذل، فلا يمكن أن نقبل و ليس من المنصف لماضي هذه الأمة أن تبقى حقب سحيقة من ماضيها خارج العمل التاريخي المتنور بمعطيات العصر، فقد كانت منجزات الآخر بطبيعة الحال، قاعدة هامة لكتابة تاريخنا، لكنها لا ترقى في الواقع إلى مستوى الموضوعية المطلوبة، وذلك بفعل إرادة الاكتشاف على حساب الوثائق و المعطيات المادية للتاريخ الموريتاني الصحيح، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما كان غائبا أو << مُغَيَّبًا >> مما سطرته سواعد أبطال المقاومة من بطولات أعطت انطباعات تاريخية قوية عن شخصية هذه الأمة و رفضها للاستكانة و الرضوخ لأطروحات الآخر و أشاد بها كتَّاب التاريخ الإنساني العام برمتهم.
آن لمؤرخينا أن يرفعوا التحديات التي تواجه كتابة تاريخنا على وجه موضوعي وبنفَسٍ موسوعي يربطنا بواقع الهوية و الشخصية العربية و الإفريقية في حقولها التاريخية الإسلامية المشتركة و في آفاق ما شيدته يد الإنسان القديم في هذه الأرض الصحراوية المترامية الأطراف و ماضيها الزاخر بالأحداث التاريخية المؤثرة في المحيط الطبيعي والإنساني و المشكِّلة لوعي ما فتئ يتطور باستمرار، ولكن بعيدا عن الانتقائية التي يغذيها أحيانا الاهتمام بشكل صارخ بشجرات الأنساب، التي هي في الحقيقة من الأبعاد الحضارية للأمة، لكنها ليست كل شيء في العمل التاريخي الوطني.
إن إعادة كتابة التاريخ لا تعني أكثر من إخضاع ماضينا المجيد إلى مَعاِولِ العصر و اعتبار هذا الماضي ماثلا بيننا نعيشه و نطعمه من الواقع المعيش، ونؤسس به تعاملنا مع الآخر لتحيى به الذاكرة الجمعية، ولنستطيع تنقيته من أدران إرادة القراءة على حساب الوثائق والشواهد المبرزة للأمجاد الحضارية لامتنا.