ذكريات مخبر صحافي(1) _(2)/ عبد الله السيد

ثلاثاء, 10/03/2020 - 08:08

(1)

الزمان 1976:  الحكومة: حكومة العباقرة : احمد ولد سيدي باب ، محمد الحافظ النحوي، عبد الله ولد بيه، سيدي احمد ولد الدي..الخ
أما المكان فهو: 
مقر الوكالة الموريتانية للصحافة قبالة دار أحمد ولد محمد صالح ( ilot V).
والمدير العام: الاستاذ سيدي ابراهيم سيدات: أربعيني  نشط، خطه مشرقي جميل وتعامله مهني محبب، يلوم المحررين كثيرا لكن كان لومه لوم المهني الحاني عليهم: يبوي هذا ما عندو معنى، يبوي هذه الهمزة ما ذ كيف كتبتها، اخباركم كتبوها فقرات وابدؤوا بالأهم ثم المهم ثم الاقل أهمية. 
مدير الأخبار: العالم احمد خليفة:صحافي فرانكفوني قادم من مركز تقنيات الاتصال في داكار ، يحرر بلغة سهلة ممتنعة سريع الكتابة جميل الخط (تولى ادارة الوكالة فيما بعد).
رئيس التحرير: محجوب ولد بيه صحافي محظري قادم من دراسة الاعلام بالجزائر: همه الوحيد ان تعترف له بأنه سيبويه في النحو وبأنه فيروز ابادي اللغة العربية: يقدرك اذا كتبت غريب اللغة في اخبارك عكس سيدي ابراهيم سيدات الذي يوصينا: اكتبوا بعربية مفهومة مبسطة لكن فصيحة؛ عربوا الحسانية. 
رئيس قسم الريبورتاج: محمد الامين السجاد، فرانكفوني درور القلم ذو أخلاق عالية، يكتب مستعينا بأعواد "كاميليا اسبور".
أكملت التدريب ومعي الاخوة ماموني مختار ومحمد الامين علال وسي ممادو ومحمد السالك ولد اسويلم والنمين ولد الطالب ومحمد محمود ولد دحمان وزينب ابراهيم فال( الفتاة المحررة الوحيدة في قاعة التحرير).
مجموعة قليلة من العباقرة تنتج يوميا 300 برقية متقنة باللغتين في جو من الزمالة والتكامل. 
وزعت قطاعات العمل بين المخبرين وتولى الاخ ماموني تغطية نشاطات الحزب وحولت الى الرئاسة.
يطلعني مدير التشريفات عبد الله ولد اربيه رحمه الله يوميا على استقبالات الرئيس المختار ولد داداه وأغطي لقاءاته الرسمية: سفراء وفود اجنبية واسجل التصريحات واعالجها.
حادثتان:
********
-1 في أحد الأيام وكنت في قاعة الاستقبال امام مكتب الرئيس، فوجئت بالرئيس المختار يخرج من مكتبه ويقول لي بصوته الهاديء المهذب: بوي السلام عليكم، شوف ذ الراجل ال يقعد عند الباب الغيل اعليه ( يعني بوابه رجل مسن من اهل بتلميت فيما أذكر)، . 
- 2 قابل الرئيس المختار وفدا سعوديا برئاسة محمد عبده يماني وزير الاعلام، وأخذت تصريحا منه: عندما أردت تحرير الخبر بدأته بفقرة من تصريح الوزير بدل ذكر معزوفة : استقبل الرئيس.. الخ.
غضب الاستاذ محجوب بيه وقال لي: هذه وكالة رسمية لا بد ان تبدأ بذكر الرئيس فهو العنصر الاهم؛ قلت له : الاهم بالنسبة للبلد هو 
اعلان الوزير السعودي عن إكمال مجموعة بنى تحتية (قصر العدالة ومباني اخرى).  
رد علي: هذه وكالة الدولة ماهي وكالة اهل السيد وسأحولك عن القصر .
تدخل سيدي ابراهيم سيدات ليحكم: الحق مع رئيس التحرير سياسيا ومع عبد الله السيد مهنيا.
وحولت عن الرئاسة لتغطية أخبار المطار..
هكذا أدركها الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

:الجندية المجهولة (2):
*************************************
العمل في الوكالة الموريتانية للأنباء عمل لذيذ مهنيا، لكنه قاتل وذلك لعدة أسباب: منها أن الصحافي فيها يعمل جنديا مجهولا: فالانتاج كله ينسب ويحسب للوكالة فتوقيع الصحافيين لإنتاجهم ممنوع حتى اليوم، وفقا لتقليد متوحش غير منصف قديم، تخلت عنه الوكالات سوى المحنط منها.
مع أن التوقيع مهم للوكالة وللصحافي معًا.
فما أحسنت فيه الوكالة تحسبه الحكومة للمدير العام الذي نادرا ما يكون قادرا على كتابة جملة، والمدير العام لا يعين من داخل الوكالة بل تلقيه الحكومات عليها من خارج المؤسسة بعيدا عن تخصصها ليبدأ التحصيل.
فمنصب المدير العام للوكالة منصب سياسي في مفهوم الحكومات وجميعها تعاملت معه من هذا المنطلق الا في حالات نادرة: ولد عبد العزيز جعله منصبا خاصا بأخوالنا الحراطين( راجع من تولوا ادارتها في عهده فالمهم عنده ان يكون حرطانيا فقط لا غير).
وما أخطأت فيه الوكالة فهو بسبب الصحافيين؛ وقد فصل زملاء كثيرون بسبب أخبار لم ترض عنها الحكومة فحملها المدير العام للمحرر.
كنت احرر تقارير واخبارا ثم تنشرها الوكالة ثم يقرؤها مذيعو الإذاعة ويقرؤها مقدمو النشرات في التلفزة ولا أحد يعلم أنها أخباري وتقاريري التي سهرت عليها.
أنجز مهامي في الوكالة ثم آخذ المذياع لأستمع اليها مقروءة بدون زيادة او نقصان وكأن المذيع صاحب الحنجرة الطنانة هو من أنتجها.
هذه الجندية المجهولة تعوض الوكالة عنها: علاوة 900 أوقية شهريا ويسمونها "تعويض الإذعان"(indemnité de suggestion ).
زملاؤنا في الاذاعة والتلفزيون يقرؤون انتاجنا ويصلون به الى المناصب ونحن جنود مجهولون لا أحد يعرفنا، ولا حكومة تحن علينا.
نكتب التعليقات والافتتاحيات ( نتوب الى الله من كل ذلك) ونخوض الحملات دفاعا عن الحكومة أو عن البلد( ذاك تأويلي)  ونقضي أعمارنا في هذه المغارة القاتلة ونتقاعد ولا أحد يودعنا، وتوشح الحكومة البوابين وصغار الموظفين ونحن نعود الى بيوتنا بأفواد شائبة وبخفي حنين وبتعويض عن التقاعد لا يسد خللا، دخلتها مؤجرا لسكني وما زلت، لا أملك حبة رمل في العاصمة: ذلكم مصير من يكون قدره العمل في الوكالة الموريتانية للصحافة أو للأنباء.
هكذا خرجت منها لكنني أشكرها ففيها تعلمت الكثير وزاملت الكثيرين : لا أحد يعرفني لأنني لم أستخدم المهنة للتودد للمسؤولين من أجل منصب أولطلب "بوهات غازوال" أو القطع الارضية أو لحضور لقاء مع الرئيس ولم أقبل أن أكون ناقلا للوشايات.
  هناك شيء واحد خرجت به من  4 عقود رهنت فيها نفسي عشقا لمهنة التعب؛   هو قلم يعرف كيف يكتب الخبر وكيف يكتب التقرير وكيف ينجز التحقيق وكيف يجري المقابلة وكيف يكتب العمود والمقال:؛ قلم عفيف ولله الحمد.

تصفح أيضا...