قرأت بتمعن ما كتبه الأستاذ محمد جميل منصور عن الحرية، وذلك في إطار وعد بنقاش متشعب حول بعض القضايا التي يثور حولها الخلاف بين الإسلاميين، وقد بدا لي تسجيل الملحوظات التالية:
1- أن الأستاذ استفاض في موضع لا خلاف فيه، حتى كاد يوهم أن الخلاف حول قيمة الحرية ومكانتها في الإسلام، وليس الأمر كذلك، فإن كل ما ذكر الأستاذ عن الحرية مسلم، وإنما الخلاف في حدود وضوابط هذه الحرية التي يعترف بأنها لا يمكن أن تكون مطلقة، ونرى أن حد الردة خارج عنها، وأن التبشير بدين مخالف في مجتمع مسلم مخالف لها، فجاء عموم المقال في تأكيد المؤكد، وكلما اقترب من خطوط النزاع ابتعد عن الإصابة والسداد.
2- أنه يبدو فيما كتب الأستاذ لبس بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية فإن قوله " والله الذي لم يكره خلقه على الهداية - والشك في قدرته على ذلك كفر بواح" متعلق بالإرادة الكونية، أما الإرادة الشرعية فهي المعبر عنها بقوله تعالى {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)} سورة الزمر، فإن إرادة الله الكونية اقتضت إيجاد الكفر {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) سورة التغابن، ولا محل للإرادة الكونية في الاستدلالات الشرعية، وقد حاج المشركون بهذه الإرادة الكونية فلم تغن عنهم شيئا {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148).الأنعام
3- ليس صحيحا أن "مشاهد التاريخ البشري في دعوات الأنبياء ثم أتباعهم والصالحين من بعدهم تنقل إلينا صور معاناة هؤلاء وهم يثبتون على حقهم وينشرونه ما نقلت إلينا صورهم وهم يفرضون حقهم أو يكرهون الناس عليه، " بل نقلت إلينا مشاهد من نشرهم الدين بالقوة، ولو اقتصرنا على ما ورد من القرآن في ذلك لقام به الدليل، فكيف بعمل الصحابة الذين فتحوا ثلثي العالم القديم في وقت قياسي. فهذا نبي الله سليمان يرد على رسول الملكة بلقيس {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)} سورة النمل، وهذا ذو القرنين يقرر عقاب الظالمين: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87)} سورة الكهف. وعموما فإن قتال الأنبياء وأتباعهم لفرض الدين حالة غالبة ونتيجتها ثواب الدنيا (النصر) قبل ثواب الآخرة {َوكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} سورة آل عمران.
4- تمتاز النصوص الشرعية كتابا والسنة بالتنوع والثراء في بعض المواضيع إلى درجة يبدو فيها التعارض، وهناك يسلك العلماء حقا سبيل التقصي والجمع والتوفيق، والذين يسلكون مسلك نومن ببعض ونعرض عن بعض ينزلقون لإهمالهم جانبا من الصورة، وهكذا ضل المشبهة لاعتمادهم على نصوص توهم التشبيه فقط، وضل المعطلة لاعتمادهم على نصوص توهم التنزيه فقط، وضل نفاة القدر لاعتمادهم على النصوص الدالة على ذلك فقط، وضل القائلون بالجبر لأنهم معتمدون على أدلته فقط، ووفق أهل الحق لجمعهم بين الأدلة، وحملهم كل نص على محمله، لدليل فيه أو في غيره، فجعلوا النصوص بعضها موافقا ومكملا لبعض، لا ناقضا له. وهكذا الأمر في الأدلة الموهمة عموم ألا إكراه في الدين، فإنها معارضة بنصوص صحيحة صريحة من الكتاب والسنة فيتعين الجمع بينهما، بدلا من إهمال أحدهما.
هكذا نقول إن قوله تعالى لا إكراه في الدين لا يمكن أن يحمل على ظاهره، ولم يقل أحد بذلك قبل المعاصرين الذين سرت فيهم سيكولوجية الانهزام النفسي، وذلك لأننا لو اعتبرناها على ظاهرها لشملت كل إكراه، لأن لا هذه نافية للجنس، مما يعني نفيها لكل ألوان الإكراه ماديه ومعنويه ظاهره وباطنه، وقد علم أن في الشريعة إكراه لا يختلف فيه اثنان من أهل الشهادة كردع الظالم والقصاص من الجاني المتعمد، فإن مثل ذلك عادة لا يكون إلا بإكراه، فإذا ثبت أنها من العام المخصوص الذي لا يستغرق كل ما يصلح له، لم يعد معنى للاستدلال بها على العموم، لا سيما مع وجود نصوص منفصلة -أوردنا كثيرا منها في مقال منفصل ردا على الشنقيطي- ولذا اتفق المفسرون المتقدمون على أنها إما منسوخة أو خاصة، والعجب أن ولد منصور يرمي بذلك ضرب الحائط قائلا " ولم تنجح مقولات النسخ ولا التخصيص ولا التأويل في تقييد هذا الأصل المقرر لعدم الإكراه " فليته نشر ما طوى، ألم تفلح عند العلماء والمفسرين؟ ومن منهم فندها وبم؟ أم أنها لم تفلح عند من لا يعني له اتفاق العلماء والمفسرين شيئا كبيرا؟.
5- الاستدلال بنحو قول الله تعالى {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} لا يليق إلا ببعض المعاصرين ممن يجهل تفنن العرب في أساليبهم وإخراجهم الأمر والنهي والاستفهام عن معانيها الأصلية، والذين يبترون الآيات من سياقها. فهذه الآية لا تتناول حكم الإكراه في الدين، بل تقصد التهوين على النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان مهموما بمصير الكفار مشفقا عليهم، تكاد نفسه تذهب عليهم حسرات، فكانت هذه الآية تخفيفا عنه وتذكيرا له بأن هذه إرادة الله الكونية، كقوله في آية أخرى {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} وقوله في آية أخرى {فلعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)} وقوله في آية أخرى أ{َفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)}. وهكذا فإن جعل آية التوبة اختيارا موغل في الظاهرية وبتر الآية عن سياقها. وأغرب منه جعل التهديد إباحة وتخييرا كالاستدلال بقوله تعالى: وقوله تعالى {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)} فإن من له معرفة بأساليب العرب يدرك أن هذا تهديد لا تخيير، كما تقول لابنك الذي يريد أن يفعل ما نهيته افعل فما الذي يمنعك، ولتأكيد أنه تهديد لا تخيير جاء قوله تعالى { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا}.
6- صحيح أن الإسلام يكره النفاق ويذمه ويجعله أحط دركات السوء، لكن الإسلام وإن كانت عقائد محلها القلب لا تقبل عند الله ممن قالها مداهنة أو رياء أو تقية -وهذا محل الثواب والعقاب عليه يوم تبلى السرائر- فإنه أيضا شرائع وقوانين ونظم. وككل النظم فإن هذه الشرائع والقوانين يربى الناس على احترامها بالتربية والتعليم والإرشاد والتوجيه، فإن وجد من لا تنفعه التربية ولا تؤثر فيه الموعظة كان من حماية النظام أن يفرض القانون، فهل نبيح للقوانين أن تحمي نفسها، ولا نبيح ذلك لقانون الإسلام؟