إن المادة 93 من دستور 20 يوليو 1991 المعتمد بتاريخ 17 أغشت 2017 تنص على ما يلي :
[لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن أفعاله أثناء ممارسة سلطاته إلا في حالة الخيانة العظمى.
لا يُتهم رئيس الجمهورية إلا من طرف الجمعية الوطنية التي تبت بتصويت عن طريق الاقتراع العلني و بالأغلبية المطلقة لأعضائها، وتحاكمه في هذه الحالة محكمة العدل السامية ].
و تكاد هذه المادة تكون متطابقة مع نظيرتها في الدستور الفرنسي قبل 2007.
و لكن النقاش ظل محتدماً هناك حول مفهوم الخيانة العظمى نظرا لما يتسم به من " إطلاق وميوعة وحتى من غموض في بعض الاحيان" كما وصفه صادقاً أخونا الوزير و الأستاذ سيدي محمد ولد محم .
و بموجب القانون الدستوري 2007 - 238 الصادر بتاريخ 23 فبراير 2007 تدخل المشرع الفرنسي ليحسم النقاش فعدل المادة تعديلاً ألغى بموجبه عبارة " الخيانة العظمى " بسب " عدم دقتها "و استبدلها بمصطلح أكثر وضوحاً نسبياً هو " الإخلال بالواجبات الدستورية" .
و هكذا جاءت صياغة المادة 68 جديدة من القانون الدستوري الفرنسي على النحو التالي في ما يتعلق بالموضوع:
" لا تجوز تنحية رئيس الجمهورية إلا في حال إخلاله بواجباته بما يتنافى بشكل واضح مع ممارسة ولايته"
و هكذا يحتفظ مفهوم الإخلال بالواجبات الدستورية هو الآخر بقسط من الغموض.
ذلك في ما يتعلق بالمضمون الذي قد يرجع التأويل فيه للمجلس الدستوري الفرنسي.
أما في ما يتعلق بالشكل فإن المشرع الفرنسي قد حدد إجراءات عزل الرئيس المخل بالتزاماته الدستورية بموجب القانون العضوي رقم 2014- 1392 الصادر بتاريخ 24 نوفمبر 2014 و القاضي بتطبيق المادة 68 جديدة من الدستور .
و من هنا تباين النصان الفرنسي و الموريتاني من حيث المضمون إذ لا يزال الدستور الموريتاني يحتفظُ بمفهوم " الخيانة العظمى " بينما استبدله النص الفرنسيُّ بمصطلح اعتبر أكثر وضوحاً هو مصطلح " الإخلال بالالتزامات الدستورية " .
و من حيث الشكل - و هذا شكلي في حد ذاته - فإني أتساءل هل هنالك قانون موريتاني يحدد إجراءات محاكمة الرئيس في حالة ارتكابه خيانة عظمى لا قدر الله.
و قرأتُ لأخينا الوزير و الأستاذ سيدي محمد بن محمْ رأياً ذكياً يعتبر فيه أن مصطلح "الإخلال بالواجبات الدستورية " على مستوى الفقه الدستوري الفرنسي
يعتبر تطوراً لمفهوم " الخيانة العظمى "
الذي هو المصطلح المستخدم حاليا في الدستور الموريتاني ، و نظراً للترابط الوثيق بين النصين الدستوريين المبنية على أساس أبوة أحدها للآخر ، فإنه يرتب على تلك المقدمة نتيجةً يتخذها قنطرةً يختزل بها الطريق بين المفهومين دون الرجوع إلى تعديل دستوري كما فعل الفرنسيون و هم قدوتنا في المجال" !. و من ذلك المنطلق ، يعتبر [أن أي تورط لرئيس الجمهورية ( الإسلامية الموريتانية ) أو حتى علمه أو سكوته على أعمال ولو ذات طابع تسييري صرف تَرتب عليها ثراء دون سبب أو تضييع أموال عمومية أو تهريبها أو تفويتها بشكل متعمد، يعني إخلالا بواجباته الدستورية، ويشكل بالتالي خيانة عظمى موجبةً للمتابعة].
أما أنا فأعتقد أن المجلس الدستوري نفسه الذي يُفترض أنه هو وحده المختص في هذا المجال ، قد لا يجرؤُ على مثل هذا التأويل الذكيِّ !
و يبقى هنالك احتمالان هما : التعديل و لو عن طريق البرلمان أو الاستلهام من تأويلات فقهاء القانون الدستوري الفرنسيين في الموضوع قبل صدور القانون الدستوري الفرنسي 2007 - 238 الصادر بتاريخ 23 فبراير 2007 أي انطلاقا من مصطلح " الخيانة العظمى " أيام تطابق النصين .
و من هؤلاء من يعتبر أن هذه الأحكام الدستورية لو أنها طبقت فعلاً ، ما كان لينجو منها من الرؤساء الفرنسيين سوى الجنرال ديگول وحده ، أما بقية الرؤساء الفرنسيين المتعاقبين فما منهم إلاَّ و قد اقترف في حق الوطن ما يستوجب اتهامه و إدانته بالخيانة العظمى أو الإخلال بالواجبات الدستورية.
و يستفيض هؤلاء في الاستدلال بالأمثلة التي يعتبرونها ساطعة.
و في الأخير فقد أعجبني تأويل الأستاذ سيدي محمد و محاولته الاقناعَ برأيه و ذلك بلجوئه إلى الفقه الدستوري المقارن و اعتماده الدستور الفرنسي و الدساتير المقتبسة منه مرجعية ، فتلك شنشنة أعرفها من أستاذي البروفسور ببوط تغمده الله برحمته الواسعة ، و قد انتهج ذلك المنهج ببراعة في آخر مقالٍ كتبته يده الطاهرة عن التعديلات الدستورية سنة 2017 ، و نشر قبل وفاته بفترة وجيزة في 29 ابريل 2018 في المجلة الفرنسية للقانون الدستوريِ.
قال لي مرة إن الدستور الفرنسي يقتبس من الدستور الجزائري الذي يقتبس بدوره من الدستور الفرنسي 1958.
و في الأخير أنبه إلى أن أخانا الأستاذ سيدي محمد بن محم يبحث جاهداً عن التغلب على واقع دستوري مرير يتمثل في تشبث الدستور الموريتاني بمواد من الدستور الفرنسي تم تجاوزها في فرنسا منذ القدم .
فبالنسبة لهذه المادة المتعلقة بالخيانة العظمى و غموضها مثلاً تجاوزها الفرنسيون منذ 13 سنةً فوصلوا بذلك إلى مصطلح " الإخلال بالواجبات الدستورية".
و مثل هذه المادة تلك المتعلقة بإمكانية لجوء رئيس الجمهورية إلى الشعب مباشرة في الاستفتاء على الدستور بدل المرور بالبرلمان و تتناوله المادتان 11 من الدستور الفرنسي و 38 من الدستور الفرنسي.
و قد خضعت المادة الفرنسية لأكثر من تعديل نظراً للجدل الذي أثارته بين الفقهاء الدستوريين الفرنسيين بينما لا نزال في موريتانيا نتشبث بنصها الأصلي . و الطريف أن ذلك قد اضطرنا ابان التعديل الدستوري 2017 إلى الرجوع إلى سنة 1962 لاجترار حجج فقهاء القانون الدستوري الفرنسي المختلفين آنذاك حول الموضوع بعد أن تجاوزوه هم أنفسهم منذ القدم.
كتبت بهدف المساهمة في إثراء النقاش.
رحم الله السلف و بارك في الخلف .