نشرت بعض الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي أنباء تفيد برفض فصيل منشق عن "كتاب ماسينا" التابعة لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، قرار قيادة "الجماعة" بتحييد موريتانيا وإبعادها من دائرة هجماتها المسلحة، وقد اعتمدت تلك المصادر على تسجيل صوتي لزعيم هذا الفصيل "محمدو موبو" يتحدث فيه عن القطيعة بينهم وبين زعيم كتائب ماسينا "محمدو كوفا" وجماعة نصرة الاسلام والمسلمين، ويشير في الشريط إلى اقتتال تتحدث مصادر محلية عن وقوعه بين الفصيل وعناصر موالين لزعيم كتائب ماسينا، قبل عشرة أيام تقريبا في وسط مالي، وينعي اثنين من رفاقه يقول إن أنصار "كوفا" قتلوهما، ويكيل المتحدث جملة من الاتهامات لجماعة نصرة الاسلام والمسلمين وكتائب ماسينا، قائلا إنهم يسكتون عن المذابح التي ترتكب ضد الفلان، ويوالون الطواغيت، ويتهمهم بالتحالف مع موريتانيا التي وصفها بأنها عضو في قوة الساحل المشتركة، لكنه لم يطلق اي تهديد أو وعيد ضد موريتانيا وقواتها.
لذلك أعتقد أنه لا مندوحة لنا عن التعاطي مع هذه المعطيات، نظرا لحساسيتها وخطورتها، مع التنبيه بداية إلى أن الفصيل المنشق عن "كتائب ماسينا" يوجد في منطقة "كورما" على الحدود بين مالي وبركنفاصو، أي على بعد آلاف الكيلومترات عن الحدود الموريتانية، ويركز في أجندته العسكرية على القتال ضد الحكومة البوركنابية
وعند أي محاولة للتعليق على هذا الموضوع، تتزاحم الأسئلة وتتوارد الخواطر، عن احتمال استهداف جزء من مقاتلي "كتائب ماسينا" لموريتانيا بعد سنوات من تأسيسها، وبذريعة قديمة لا جديد فيها، وما هي طبيعة العلاقة التي يفترض أن تكون قائمة بين مقاتلي ماسينا من "قبائل الفلان" وموريتانيا سياسيا واجتماعيا وروحيا وديمغرافيا، ولماذا ظلت موريتانيا بمنأى عن هجمات جماعة نصرة الإسلام والمسلمين بكل فصائلها، ومسلحي تنظيم الدولة الإسلامية، طيلة السنوات الماضية.
بداية لا بد من التطرق للسؤال الافتتاحي لهذا النقاش، وهو لماذا بقيت موريتانيا بمنأى عن هجمات الجماعات "الجهادية" في شمال مالي؟، رغم أنها كانت عرضة لهجمات دامية خلال الفترة ما بين يونيو 2005 (هجوم لمغطي) ودجمبر 2011 (اختطاف دركي موريتاني من عدل بكرو)، وهنا يجب التذكير بأنه مع بداية عام 2012 دخلت الجماعات الجهادية في شمال مالي وهي يومها ثلاث تنظيمات (القاعدة، وأنصار الدين، والتوحيد والجهاد في غرب إفريقيا) في تحالف يهدف إلى التخطيط للسيطرة على منطقة أزواد في شمال مالي، وهو ما تم لها بالفعل، حيث توقفت حينها عن الأنشطة المسلحة في دول الجوار، منشغلة بالتسيير اليومي للمدن الواقعة تحت سيطرتها ومحاولة حمايتها، ومع مطلع عام 2013 بدأت القوات الفرنسية مصحوبة بالجيش المالي وقوات من دول إفريقية عديدة، حربا لإخراج المسلحين السلفيين من شمال مالي، وحينها اعتزلت موريتانيا تلك الحرب، لأسباب قد يضيق المقام عن بسطها فاستغل قادة الجماعات "الجهادية" الفرصة ليعلنوا في أكثر من مناسبة أن حربهم ستقتصر على الدول التي دخلت في مواجهة معهم، ملتزمين بما سموه "بذل الحياد" لمن أعرض عن محاربتهم، في إشارة واضحة إلى موريتانيا.
لا جديد يستدعي تغيير الموقف
وفي يوليو عام 2017 أعلن في العاصمة المالية بامكو عن ميلاد القوة المشتركة لدول الساحل الخمس (G5)، بمشاركة موريتانيا، غير أن "الجماعات الجهادية" في المنطقة لم تر في ذلك مشاركة فعلية في الحرب عليها واعتبر قادتها أن الحرب بالنسبة لهم تعني وجود قوات موريتانية على الأراضي المالية للمشاركة في الحرب، أو تسخير الأراضي الموريتانية لإطلاق عمليات عسكرية ضدها، كما أن موريتانيا سعت منذ تأسيس القوة المشتركة، إلى اعتماد رؤية لاستراتيجيتها العسكرية، تقوم على ضرورة تعزيز أمن الحدود من طرف جيوش دول المنطقة، وتعزيز التعاون العسكري والاستخباراتي، قبل اللجوء إلى المرحلة الموالية المتعلقة بتنفيذ عمليات ميدانية على الأرض لملاحقة المقاتلين "السلفيين" في معاقلهم، وهي المرحلة التي تستدعي توفير التمويل اللازم والتسليح، وقبل ذلك العمل على حل الإشكالات الداخلية للبلدان التي تعاني من ظاهرة "التطرف العنيف"، حيث تشكل بعض تجمعاتها السكانية بؤرة للتوتر وحاضنة شعبية حقيقية للجماعات، الأمر الذي يجعل من أي عمل عسكري أو إقليمي أو دولي هناك، قبل تسوية الأوضاع الداخلية للبلدان، حشرا للأنف في أزمة تواجهها تلك الحكومات مع بعض سكانها، وبالتالي ستكون تورطا في الشأن الداخلي لتلك البلدان، كما سيلاقي أي عمل عسكري وأمني مشترك هناك في هذه الظروف، ذات المصير الذي آل إليه عمل القوات الفرنسية والدولية، التي قادت حربا أدت اليوم إلى تعقيد الأوضاع أكثر من سابق عهدها، وتوسيع دائرة الجماعات "الجهادية"، ليتمدد نشاطها جنوبا نحو منطقة "ماسينا" ويشمل أجزاء كبيرة من النيجر وبركنفاصو.
ماسينا وموريتانيا.. الهدوء المنشود
أما ما يتعلق بكتائب مساينا، فإن جملة من المعطيات تعترض طريق أي تحليل قد يفضي إلى احتمال دخولها أو دخول فصيل منها، في مواجهة مع موريتانيا خلال المرحلة الراهنة.
أولها يتعلق بالتركيبة العرقية لهذه الجماعة، حيث تبدو خالصة للفلان في منطقة ماسينا من دون السكان الآخرين، بمن فيهم الفلان من خارج تلك المنطقة، ومعلوم أن الحركات "الجهادية" ذات الطابع العرقي والمناطقي تقتصر أنشطتها عادة على مناطق حاضنتها الشعبية، كما هو الحال مع حركة طالبان في مناطق قبائل "البشتو" بأفغانستان، ومع بوكو حرام في حواضر قبائل "الكانوري" بمنطقة بحيرة اتشاد، وجماعة أنصار الدين في مناطق الطوارق بشمال مالي، وقد يقول قائل إن الحاضنة الشعبية المفترضة لمقاتلي "كتائب ماسينا" تمتد إلى موريتانيا بحكم وجود "الفلان" ضمن المكونات العرقية الموريتانية، وهنا يمكن أن نلقي نظرة على خريطة المجموعات الجهادية "الفلانية" المقاتلة في مالي والنيجر وبركنفاصو، إذ لا يوجد بينهم مقاتلون موريتانيون، رغم وجود جنسيات مختلفة من وسط إفريقيا والكاميرون والتوغو وغيرها، جمعتهم العرقية الفلانية، والمطالبة بإنصاف هذا المكون الواسع الانتشار في غرب إفريقيا.
كما أنه لا مناص لنا من العودة قليلا إلى التاريخ، للتذكير بحالة الفتور في العلاقات الروحية والتاريخية بين مجموعات قبائل "الفلان" في منطقة ماسينا، وسائر مجموعات "الفلان" في منطقة غرب إفريقيا، إذ من المعلوم أن "الفلان" في ماسينا يشكلون حاضرة تاريخية وحاضنة صوفية للطريقة "القادرية البكائية"، بخلاف باقي مجموعات الفلان الأخرى في غرب إفريقيا التي تنتشر فيها بشكل كبير الطريقة "التيجانية" بمدارسها "الإبراهيمية" و"العمرية" و"الحافظية" و"الحموية"، بل إن التوتر ظل قائما بين المجموعتين تاريخيا وروحيا، منذ محاولة الإمام "الحاج عمر الفتوي" التيجاني، فرض سيطرته على سكان منطقة ماسينا، المتمسكين بالطريقة القادرية البكائية، فدخل معهم في حرب دامية انتهت بقتله هناك في وسط مالي سنة 1864، ومنذ ذلك التاريخ ظلت منطقة ماسينا في وسط مالي استثناء من مناطق الفلان ذات الأغلبية التيجانية في غرب إفريقيا، وظلت مشاهد التاريخ المتوتر حاضرة في العلاقات الروحية بين الطرفين.
كما أن زعيم كتائب ماسينا "محمدو كوفا" حرص في آخر خطاب له أواخر عام 2018، على مخاطبة قبائل الفلان (فولبي)أينما كانوا في غرب إفريقيا، داعيا إياهم إلى النفير من أجل "الجهاد في سبيل الله" والالتحاق بمن سماهم المجاهدين، ذاكرا بالأسماء بعض الأماكن والمواضع التي يقطنها الفلان في غرب إفريقيا، وكذلك البلدان التي ينتشرون فيها، حيث تحدث عن وسط جمهورية مالي معقل الفلان هناك، وكذلك تجمعات الفلان في النيجر، وبركنفاصو، وبنين، وكوت ديفوار وغيرهم، دون ان يتطرق للفلان في موريتانيا تصريحا او تلميحا، وهو سكوت بدا يومها رسالة تطمين مضمونها أن حالة "التحييد" أو "المتاركة" التي أقر "المقاتلون السلفيون" في مالي معاملة موريتانيا بها، ما تزال قائمة وتنطبق على مقاتلي "كتائب ماسينا"، طالما أن موريتانيا تتمسك بموقفها القاضي بحماية حدودها ومحاربة من اعتدى عليها، دون أن تتورط فيما يدور خارج الحدود.
أما المعلومات التي أوردها زعيم الفصيل المنشق "محمدو موبو" في تسجيله الصوتي بانضمام فصيله لتنظيم الدولة الإسلامية، فإنه لا يعني بالضرورة تغييرا في الموقف من موريتانيا، إذ أن تنظيم الدولة الإسلامية ظهر لأول مرة في شمال مالي في مايو عام 2015، بعد إعلان "جماعة أبو الوليد الصحراوي" انشقاقها عن تنظيم "المرابطون" ومبايعتها لتنظيم الدولة الإسلامية، ومنذ ذلك التاريخ تخوض هذه الجماعة حربا شرسة ضد مالي والنيجر وبركنفاصو، لكنها احتفظت بموقف "المتاركة" من موريتانيا، مع التذكير بأن هذا فصيل "محمدو موبو" يوجد في مناطق الحدود بين مالي وبركنفاصو بعيدا عن الحدود الموريتانية.
ثم أنه من غير الوارد إقدام هذه التنظيمات سواء في "القاعدة" أو "الدولة الإسلامية"، ـ وهي تواجه أوضاعا صعبة بفعل حرب ضدها، تشارك فيها قوى دولية وإقليمية ـ على إدخال موريتانيا ضمن قائمة أهدافها الحالية، وبالتالي المغامرة بفتح جبهة جديدة عليها من الحدود الغربية الهادئة، ومن جيش يعتبر أحد أقوى جيشين في تجمع قوة دول الساحل المشتركة، إلى جانب الجيش تشادي، ويتفوق عليه بأفضلية امتلاكه حدودا طويلة مشتركة مع مناطق انتشار مقاتلي التنظيمات المسلحة في شمال مالي.