شعور لا يوصف... ذلك الذي ينتاب الأم زينب، وهي تمضي ليلتها الأولى دون بناتها الخمس، اللواتي كابدت صروف الدهر، وصبرت حر الأيام، وقر الليالي، من أجل تربيتهن، وآثرت أن يعيشن على هامش الحياة، لكن بكبرياء، دون الحاجة حتى لمساعدة آبائهن...
دموع الصبورة زينب، وقد التهمت النيران أجساد صغيراتها، عبرت فقط عن شعور يسير من حجم المأساة... هو الشعور الذي قد ينتاب أي واحد منا لدى سماعه ما حصل... لكن ما لم تقله الكلمات والدموع، هو الحزن الذي يعتصر فؤاد السيدة، وقد فقدت فلذات كبدها، اللائي عمرت أسنهن معها فقط إحدى عشرة سنة، أما أصغرهن فقد أبت النيران أن تجتاز بكثير سن الفطام.
آلام الثكلى زينب بلا شك، توازي أو تفوق آمالها، التي كانت تؤمل من بنات عشن في كنف الفقر والمعاناة، لكنها كانت تعلمهن أن الصبر هو مفتاح الفرج، وأن مع العسر يسرا.
علمتهن مما علمتها الحياة، أن العيش في كوخ، رغم مرارته وبؤسه، خير من العيش في بروج مشيدة، مشبوهة مصادر المال، فدخلها اليومي المحدود، لا يسمح لهن بولوج غير باب كوخ من خشب، لكنها كانت تبيت قريرة العين مطمئنة البال، لا تخيفها تقارير محاكم الحسابات، ولا دعوات المظلومين.
بضعة أمتار فقط، كانت نصيب زينب من مساحة تربو على مليون وثلاث مائة ألف كيلومتر مربع، وعلى أديم تلك الأمتار عاشت وبناتها في صمت، تراهن يكبرن مع الأيام، وهن يرين حجم تضحياتها من أجل مستقبلهن كل يوم.
السيدة زينب بفقد صغيراتها، أضحى فؤادها فارغا، وقد لا تندمل جراحها النازفة ما حييت، لقد أضحت الصغيرات أثرا بعد عين... لن ينتظرن عودتها من رحلة الكد بعد اليوم، ولن تفض نزاعاتهن التي كانت تضفي مسحة خاصة على ذلك البيت المتواضع، مسحة قد لا يستشعرها من هم في بيوتات أخرى، أرقى وأجمل.
لن تجد زينب بعد اليوم من تحكي له عن رحلاتها اليومية، عن حراستها للسيارات، وهي لا تملك سوى كوخ خشب! ولا من تعده بشراء حلوى لدى عودتها، لن تحكم الليلة إغلاق باب المسكن المتواضع خوفا من اللصوص، فقد كانت ألسنة اللهب أمضى وأشد فتكا من لصوص، قد يتركون بالكوخ، أكثر مما سيأخذون منه لو زاروه، ولن تبيت هي عند الباب كي تتلقى أي خطر قادم، قبل أن يلحق ببناتها... لقد أنهت النيران كل ذلك، ولو كانت زينب على علم مسبق بما سيحصل، لقدمت جسدها فداء لأرواحهن، وكن هن الليلة من يقاسين فقد الأم والأب، وكل شيء جميل كانت تمثله بالنسبة لهن.
لم تألو زينب جهدا، لكن لا يجدي حذر من قدر، حسبها أنها جابهت الحياة بجلد وشجاعة، عاشت بيننا دون أن نشعر بمعاناتها، بل إنها لم ترد أن تشعرنا بذلك، آثرت أن تواجه الصعاب بوحدها.
لقد عرى الحريق حجم تقصيرنا، وكشف حجم صبرها، وكبريائها... فلها الثواب والأجر في مصيبتها، ولنا أن نستشعر.. لو أن بغلة عثرت... أحرى أن نفوسا هلكت!