نشأت جماعة الدعوة والتبليغ، في شبه القارة الهندية، في الربع الاول من القرن العشرين ميلادي(١٩٢٦) على يد الشيخ محمد إلياس الكندهلوي، وقد فتح الله بها قلوبا غلفا، وأعينا عميا، وآذانا صما، في القارة الهندية وما جاورها، ثم في مختلف قارات العالم ومدنه وقراه.
نشأت الجماعة في ظروف ميزتها معطيات عديدة في المكان والزمان والاحوال؛ حيث كانت شبه القارة الهندية يومها خاضعة للاستعمار الانكليزي، وكانت جراح الحرب العالمية الأولى ما تزال نازفة لم تندمل، وهي أعظم حرب عرفتها الإنسانية، حتى ذلك الحين، سواء من حيث عدد الجند فيها (٧٠مليونا) او من حيث عدد القتلى منها (١٦مليونا) او عدد الجرحى (٢٠ مليونا).
إلى ذلك كانت شبه القارة ثاني أكثر المواقع على الارض اكتظاظا بالناس، بعد الصين، وكانت، من حيث التعددية الدينية، أكثر بلاد الله مللا ونحلا؛ فإلى جانب غلبة الوثنيات الكبرى، كالهندوسية، والبوذية والسيخية، كانت الاوثان المعبودة، من بشر حجر وحيوانات وزواحف وتماثيل، ونباتات وأحوال جوية، تعد بالملايين.
أما البعثات التنصيرية عموما، ومن الكنيسة البروتستانتية، خاصة، وهي المذهب الرسمي للملكة وأتباعها، كانت تكتسح المدن والحواضر، مدعومة بالسند الاستعماري والمجامع الكنسية، وبالاموال الطائلة التي تكرسها تلك المجامع لتنصير العالم في أفق زمني محدود (!)
في أوضاع كتلك، لم يكن هنالك بديل عن الحرية الدينية، فكان القبول بتعدد الاديان والاعتراف بحرية الاعتقاد، نظاما رسميا ساريا ومقننا، فالناس في معابدهم أحرار فيما يعتقدون وما يمارسون، وما يدعون إليه، أما خارج المعابد فالناس شركاء في “علمانية” تفصل الدين دعوة وممارسة، عن بقية مجالات النشاط الانساني فلا يكون للدين دخل فيها، بقوة القانون.
كان الاسلام، في تلك الحقبة التاريخية الديانة الثانية في الهند الكبرى من حيث عدد معتنقيه، وكان للمسلمين دور بارز في تاريخ البلاد وثقافتها وحضارتها، وقد شهد المسلمون في مدنهم وقراهم نهضة علمية وثقافية واسعة، نبغ فيها الكثير من العلماء والمحدثين والمؤلفين ومجالس العلم ومعاهده وجامعاته، فباتت ألقاب عديدة كالدهلوى والكندهلوى والمسعودي والمودودي وعشرات غيرها ملء السمع والبصر في القارة الهندية وخارجها.
في ظل تلك الحرية الدينية غير المحدودة، وحرية الدعوة إلى أي دين واي نحلة، مالم تشتغل بالأمر العام، انتعشت الكثير من الدعوات، وقامت المنظمات والحركات المحرفة، ودعاوى “النبوءات” المزعومة، كالقاديانية التي ابتدعها المسمى ميرزا غلام أحمد القادياني، مع مطلع القرن العشرين، وسماها “الجماعة الاحمدية” تلبيسا؛ وقد ادعى انه المهدي والمسيح، وأن الله أرسله لتصحيح الإسلام، فأبطل الجهاد، وجعل الحج إلى قاديان بدلا من مكة، ضمن تحريفات وتخريفات أخر.
بين مفردات تلك اللوحة المبسطة لحال الزمان والمكان والناس في القارة الهندية تحرك الشيخ محمد إلياس الكندهلوي، ورفاقه لتبصير المؤمنين بأساسيات دينهم، في إطار المسموح به، حيث أشير إليهم بجماعة الدعوة الى الإسلام وتبليغ رسالته؛ فكان لتحركهم دواعيه ومبرراته، وكان لانضباطهم بقانون الحرية الدينية، بعيدا عن الخصومات السياسية، أثر بالغ في استجابة الملايين لدعوتهم البسيطة القريبة من أفهام العامة، البعيدة كل البعد عن غالبية العيوب الخلقية التي يبتلى بها عشاق الظهور والانانية، كما كان لتعففهم، واعتمادهم على جهودهم الذاتية، في حلهم وترحالهم، وتنقلهم ومعاشهم، ما أكسبهم ثقة الناس في رسالتهم ودعوتهم، فانخرط معهم الملايين فيما هم فيه، فغطت بعثاتهم وجه العالم.
تلك هي جماعة الدعوة والتبليغ، في بواعثها الأصلية، ونشأتها، وفي غايتها المقدسة، وفي خطة تحركها، ومنظومة تعاليمها؛ ولقد بارك الله جهودها، ووضع لها القبول في كل مكان؛ ونحسب ولا نزكي على الله أحدا، أن الله تعالى علم صدق نياتهم، وطهارة كسبهم، فباركهم، فكان حصاد دعوتهم في كل مكان فوق كل التوقعات.
هل حان الوقت لتقف جماعة الدعوة والتبليغ بعد نحو قرن من الزمان، وقفة مراجعة بصيرة لمسيرتها ولكسبها، ولمنهجها وطريقتها؟ وهل باتت الأمة في غنى عن ذلك البيان المبسط، وتلك التعاليم الجاذبة، وتلك المجموعات المتواضعة المنتشرة في مساجد المدن القرى والبوادي والأرياف؟ وهل بات الخروج للدعوة والتبليغ بحاجة إلى أهداف ووسائل أخرى
تلك أسئلة كثيرة، يثيرها، خارج دائرة الآنصاف، باحثون ليسوا من صفوف الجماعة، وإن كانوا في الغالب من دوائر يفترض أنها صديقة لها، وان لم يشاركوها بذلها وكسبها وحلها وترحالها؛
أليس الأولى أن يتصدى لتحديد تلك الأسئلة وفحصها وبحثها، وتقليبها على أوجه المصلحة، باحثون من المنخرطين في الجماعة، المشاركين في بعثات الدعوة وملتقيات الجماعة ومؤتمراتها السنوية؟! ذلك مانراه، والعلم عند الله.
عاش الإسلام، ودعوة الإسلام، ودعاة الإسلام.