أود في البداية لفت انتباه بعض الطيبين والمشفقين على خطاب المعارضة والذين لا يحتملون منا سماع غير خطاب المواجهة وصولات الصراع .. أود أن أنبه أولئك إلى أن الإنسان السوي أودع الله فيه من الإدراك والفطنة ما يميز به الأشياء ويفرق به بين الحق والباطل ويستبين به السبيل ويرجح به المصالح ويستقبح به المفاسد.
وإن الفَطن المدبر للمواقف يكون شديدًا إذا اقتضت الظروف، مزمجرا في سوح النضال، لين العريكة سهل المعاشرة،إذا اقتضت الظروف حسب الحال والمكان والأشخاص (البس لكل حالة لبوسها ).
وقد قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله في كتابه الاستقامة (الشخص أو الجماعة يجمعون بين منكر ومعروف فينظر، فإن كان المعروف أكثر أمر به ، فإن النهي عن المنكر (الصغير في هذه الحالة)من باب الصد عن سبيل الله ورسوله وتفويت المنافع ).
وقيل لعمر بن العاصي أعيانا أن نعرف أجبان أنت أم شجاع ؟ فأجاب بما مقتضاه أن الظرف هو محدد إقدامه من إحجامه.
نعم أنا أكره الظلم وأمقت الظالمين ورجائي من ربي ألا أكون ظهيرًا يوما لظالم في ظلم ولا لباغ في جرم.
وقد بذلت في ذلك زهرة عمري وأيام تُستطاب الوظائف ويستلذ النفوذ، واليوم وقد مالت شمس العمر إلى جهة الضعف من بعد القوة والشيبة ، لم يبق لمثلي غير الانسجام مع القناعة في أن مايقول ويفعل هو المصلحة للأمة والأقرب إلى تحصيل المنافع لها ودفع المفاسد عنها.
لم يصدق البعض أنني كنت أحد الداعين إلى التقارب مع السلطة ونزع فتيل المواجهة معها متى ما فاءت إلى الرشد، وقبلت إدارة الدولة بتعقل وحكمة، فأنا أدرك حجم التعقيد الذي يحيط بنا كمجتمع ودولة ومشروع.
كما أنني موقن بأن الفوارق في المجتمع الموريتاني ضئيلة جدًا لو سلمت من أنانية أهل السياسة، وإذا ما قورنت بالتباينات الكبيرة في بعض المجتمعات التي تصل حد الاختلاف على القطعي من أحكام الشرع وأسلوب الحياة، ورغم ذلك تقارب أبناؤها وبحثوا في المشترك الوطني وأجلوا الصراع في الخصوصيات.
عندما زرت مطار أم التونسي -وكان يومها قيد الإنشاء - واستمعت الى شرح الفنيين لطبيعة الخرسانة وطرق معالجتها، وأصغيت إلى طبيعة الاحتياطات التي تشترطها الوكالات الدولية للطيران وجملة الاحتياطات المراقبة للمشروع، علقت عليه بتعليق إيجابي على المنشأة وليس على الصفقة في أصلها فكان استغراب البعض .
وعندما زرت البنك المركزي الموريتاني ورأيت الترتيب والأخذ للأمور بجدية شهدت بذلك فكان العجب العجاب أن يقول فلان بذلك.
كذلك عندما كنت أدير جلسات مجلس النواب كان البعض ينتظر مني انحيازا لجهة المعارضة ولايقبلون مني الحياد المفروض في مثل تلك اللحظة والشعور بالمسؤولية التي علي أن أنجح فيها
لم أكن أتوقع من أهل الخطاب الإسلامي أن يستغربوا ذلك الدوران مع الحق حيث دار ، لأن القرآن الكريم ملزم بأمر من الله بالعدل والشهادة بالقسط رغم شنآن القوم ،
لذلك وجب ظن الخير بالمجتهد قصد الصالح العام متى ما آنستم منه رشدًا في تدبير المواقف.
وذلك مما اتفقت عليه رؤى أهل الألباب واستقرت عليه موازين أهل النهى.