خالد الفاضل أستاذ تعليم ثانوي - لقد شعرت بإحراج شديد من منسوب التفاعل والإطراء من رواد التواصل الاجتماعي بشتى تشعباتهم مع إعلان هروبي من التعليم؛ حتى خيل إلي أنني شخص آخر مما جعلني آخذ المرآة المتصدعة حتى أتأكد من أنه أنا فعلا من كتب عن (الهروب) من هاتف سامسونغ جي 1 بعد ما يناهز ستة أعوام من الرقص بمحاذاة السبورة، حتى خشيت أن يشيع هروبي ويتحول إلى مدخل من مداخل الفن الشعبي كما حصل مع هروب صفوان وعكرمة يوم الخندمة؛ والذي أنجاهما من الضلالة والموت. وهروبي ليس غريبا، فذئاب الطباشير كانت تعوي منذ عدة سنين في قلبي، وأنا أحول أصواتها إلى ألحان موسيقية حتى تعبت رؤوس أصابعي؛ وأصبحت كرؤوس السنابل التي أكلت الطيور زرعها قبل الحصاد..
بصراحة شديدة أظن أنكم تنفخون الأشخاص كما تنفخون الزعماء مما يجعل الواحد منهم يتحول إلى بالون مملوء بالأوهام والغطرسة. أنا ممتن جدا لهذا التعاطف وحسن الظن اللذين أثقلا ضميري بالمثالية الصلبة، لكنني أرجو منكم توخي الحيطة والحذر؛ أثناء تعاملكم مع الأشخاص والشعارات؛ ما يدريكم لعلني مجرد سحابة من الضجيج الرقمي تشكلت بفعل غبار الكلمات فقط.
حتى لا أطيل وأعتقد أنني سأفعل ذلك؛ يرجي من كافة القراء وضع أحزمة الأمان لأن النص لن يكون معبدا مثل الطرق إلى المدن الثلاث التي درست فيها لستة أعوام متتالية: تامشكط وتيشيت وفصالة؛ وإن كانت فصالة من أسهلهم طريقا وهي المدينة التي شاءت الأقدار صبيحة الجمعة 8 نوفمبر أن تكون قمة الجبل الذي صعدته؛ ثم قررت القفز بالمظلة مدفوعا بالرغبة في معانقة الحياة للحظات قبل أن ارتطم بسفح البطالة في الأسفل والذي أجد أشواكه أكثر نعومة وإغراء من مكابدة تسلق جبال المآسي المتناثرة في صحراء قطاع التعليم.
أعتقد أن بعض الأشخاص هنا يعبدون الوظيفة العمومية من دون الله، وهي ليست إلا مجرد أصنام كهبل ومناة والعزى ولكنهم لن يستفيقوا من عبوديتها قبل أن تهدم من فوق رؤوسهم بمعاول التقاعد. إنهم يظنون أن ذلك الدخل الشهري المستقيم كتخطيط قلب ميت يستحق منا امتصاص ماء وجوهنا في سبيل إبقائه متدفقا. كأنهم لا يعلمون بأنه ينبع مباشرة من خزانات المال العام، وبيع الحلوى في الأزقة الضيقة أكثر راحة للنفس من التحايل على راتب لسنا على يقين تام بأننا نستحقه دائما؛ أبواب الرزق مفتوحة على مصراعيها، ومادامت خاصية الصحة تعمل فإن تحصيل لقمة العيش ليس بالأمر العسير. هذا الكلام موجه بالدرجة الأولى إلى الطبقات الغامضة من المثقفين والقراء؛ والتي تستطيع أن تتناقض مع نفسها دون أن تشعر بالأرق ليلا. شخصيا؛ وربما يكون هذا من الوضوح بمكان، لا أستطيع أن أعيش مع التناقض؛ فراحة البال بالنسبة لي هي الأهم؛ ولا يمكن اقتناؤها إلا مع التصالح مع النفس. فقد كان يمكنني أن أخفي الهروب حتى تسهل التغطية عليه ليبقى الراتب متدفقا كما هو ديدن أناس كثر؛ بعضهم يعمل في الخارج، وبعضهم في منزله أو عمله الخاص يتثاءب وقت الدوام؛ ويتحدث عن القيم الفاضلة أمام الملإ وبوجه من الحديد الصلب. لكن عندما فكرت في الأمر شعرت بالغثيان وبحشرجة قوية في القفص الصدري؛ مع أنه كان يمكن بأن يكون هروبا ماكرا وتبثه قناة ناشيونال جيوغرافيك في سلسلة الوثائقي الشهير: الهروب الماكر.
كانت تلكم المقدمة وهاكم التفاصيل:
لا أحب أن أتحدث عن نفسي، ولولا الأمكان التي أذيلها خواطري غالبا لما عرفتم أين أنا؟ ومن أنا؟ فلن تعثروا أبدا في صفحتي على صورة لأحد من أفراد العائلة ولا ذكرا لهم حتى؛ ولا أي تحليل جهوي أو عرقي أو تنمرا أو إطراء لشخصية عامة باستثناء بعض المراثي لأناس غادروا الحياة. أقول هذا من أجل توضيح السياق الذي أكتب من خلاله؛ سياق يتسم بقلة الضجيج وعدم الرغبة في اجتذاب الاهتمام والأضواء. لكن نتيجة احتكاكي مع بعض القضايا؛ خاصة التعليم، شاءت الأقدار أن احتك مع وزيرين، كان أولهم وزير المالية السابق: السيد المختار انجاي الذي علق لي مشكورا على خاطرة في 2017 معنونة بنيران صديقة؛ كانت عن تأخر العلاوات ورواتب الخريجين. لم أراسله؛ ولم أخطط للتواصل معه، رغم أنه في السنة الموالية دخلت رواتب الخريجين أوائل السنة الدراسية في سابقة من نوعها يشكر عليها. حتى عندما سافرت بعد ذلك للمشاركة في ورشة في جزيرة جربة تحت رعاية صندوق الأمم المتحدة الانمائي وكايسد، ظن البعض أنني ربما شربت الشاي بالياسمين، والحقيقة أن تفكيرنا مختلف تماما، أنا لا أحب السياسة وحياة الصخب والمهرجانات والأضواء وتسلق النضال والتعيين. لو كان الأمر كذلك؛ لكانت معظم كتاباتي استفزازية؛ فأنا ضليع بالمجتمع العميق؛ وأعرف متى يصبح الاستفزاز مؤثرا ودسما. ولو كنت طالب علاقات عامة؛ لكنت مدمنا على التقاط صور (السلفي) مع مشاهير الجمهورية السائلة في أزقة الفنادق والصالونات وأمام باعة المشوي أيضا وكثير التردد على الولائم والقنوات الخاصة لكني مجرد عابر سبيل فقط، أحب الأسفار والسلام وحسب.
أما فيما يتعلق بوزير التعليم الثانوي: السيد ماء العينين ولد أييه، فقد كانت خاطرة السبورة الشاحبة والمعلقة بواسطة عود من الحطب داخل قسم من الطين سببا في تواصله معي مشكورا، وذلك بعد قرابة عام من خاطرة طينية وجهتها لوزيرة التعليم وقتئذ السيدة الناها حمدي مكناس. والتي لم تتجاوب مع مضمونها إن كانت قرأتها فعلا بدليل أن وضعية المؤسسة لم تتغير قيد أنملة. مع أن وضعية جميع المؤسسات تصل إلى الوزارة كل عام في تقارير الاختتام. السيد الوزير راسلني مشكورا ولم يأخذ الأمر طابعا شخصيا، حدثته فقط عن نواقص القطاع التربوي؛ وقد أكد له مدير الثانوية نواقصها حينما هاتفه الوزير. معظمها كان يحتاج متسعا من الانتظار، وبعضها يحتاج اهتماما عاجلا وحسب، اهتماما لم أر له ارهاصات إلا حركة مكالمات هاتفية سرعان ما خمدت، أم الفساد في جوف الوزارتين فلم يتوقف نزيفه المخالف للقوانين المعمول بها ظاهريا لمن فتح عينه في أعماق الوزارتين وسراديبهما. على كل حال؛ الكلام عن المظالم والتسيب بوزارتي التعليم ذو شجون؛ ويحتاج إلى شعراء الأغريق والجاهلية وصدر الإسلام، وفلاسفة عصر التنوير وكتاب أعمدة الصحف العالمية ومؤثرات أفلام هوليود وبوليود أيضا لحاجتنا للدموع والمطر، بالإضافة لأصحاب الأراجيز في تراثنا لتطويق معاناة المدرس بالتعبير.
شخصيا؛ عملت بداخل مناطق نائية؛ ولم يكن ذلك تحويلا تعسفيا للأمانة؛ أنا من إختار ذلك؛ أردت استغلال مهنة التعليم لممارسة هوايتي المفضلة في السياحة والسفر لما لهما من أثر بعيد على نمو الحكمة وتشعب المعرفة بيد أن سرعة استجابة الوزارة كان يفتح أقواسا؛ تركتها مغلقة دائما. خاصة؛ عندما تم تحويلي إلى ولاية تگانت وعملت هناك لسنة واحدة ومن المعلوم أن التحويل لابد له من أقدمية ثلاث سنوات متتابعة؛ وعندما كتبت فصالة ثلاث مرات في خانة الخيارات وجدتني في فصالة هذه المرة؛ رغم أن التحويل داخل الولاية من صلاحية الإدارة الجهوية هنالك، والتي لا أعرف أحد من طاقمها ولم أزر أروقتها مسبقا في النعمة.
المهم خلال تجوالي داخل الحديقة الخلفية لقطاع التعليم لمدة ست سنين في ثلاث ولايات؛ رأيت قصصا يندى لها الجبين، شيخ في قرية ريفية يبكي يريد مدرسا لقريته المنسية، معلم وصل عامه العشرين من الخدمة دون أن يظفر بالتحويل أو أن يصبح مديرا لمدرسة ريفية؛ بينما آخرون يدخلون العاصمة في عامهم الأول. عامل لا يلج ثانويته تتم ترقيته لمدير دروس. طباشير مثل المسامير لفساد الموردين، أقسام شاحبة ومختبرات مكسوة بغبار النسيان. معنويات منحنية لطواقم تربوية تبتزها الوزارة براتب شاحب وعلاوات ضامرة. تستدرجهم حتى يتزوجوا وينجبوا بعض البراعم ويصبح الواحد منهم غير قادر أبدا على التمرد، فيطأطئ رأسه أمام التعاسة والجور حتى تأتيه من سنوات الخدمة ورقة تقاعد بلا امتنان، ليتفرغ بعد ذلك لمعالجة الربو والزهايمر وموصلة الكد بأصابع مائلة. تجد نصيب المدرس من الشوارع هو الغبار، حتى إذا اشترى سيارة ومارس فيها النقل ومر بنقطة تفتيش ما وقال لهم معكم حامل طبشور. قالوا له هاتي أوراق السيارة وانزل بينما يكتفون بتحية عامل آخر إذا ما قدم لهم صفة دسمة حتى ولو كانت سيارته بلا هوية. وجراء سياط الراتب الخشنة؛ لجأ كثيرون إلى خصخصة التعليم بغية إبقاء الحياة الكريمة في حبالهم الصوتية؛ فاستندوا على جدران الدروس الخصوصية حتى لا يفقدوا التوازن بعد منتصف النهار. المدرس أصبح بأسفل هرم التصنيف المادي والمعنوي في المجتمع العميق. عندما تزور أي مدينة في الوطن تجد بأن جميع المراكز الحكومية أنيقة أو مهابة، بينما المؤسسات التعليمية فيها فتشبه المقابر المهجورة باستثناء التي بنتها هيئات غير حكومية. ناهيك عن تردي المناهج؛ وأشياء أخرى كثيرة يضيق (التكنتي) عن ذكرها. وأصدق تعبير عن واقع المدرس؛ تعليق كتبه أحدهم؛ قال إن المدرس مثل الطريق التي يعبرها جميع الناس(الطلاب) نحو وجهتهم، لتبقى الطريق في مكانها مقعرة ومليئة بالحفر مثل طريق الأمل..
أما بخصوص هروبي ولا أقول استقالتي؛ لأن الاستقالة من الناحية القانونية لست ضليعا بتفاصيلها خاصة لكوني لم اتجاوز بعد عشر سنوات من العبودية الراقية؛ لكنني هربت على كل حال؛ ولن أعود ثانية إلى عالم الطباشير إلا إذا تساقطت الثلوج على قمة جبل أنگادي في مدينة النعمة.
أما أسباب الهروب فإن 60% منها شخصي ولن أذكره لأنه لا يعنيكم؛ ومن كان من أهل الفضول فعليه انتظار كتابة مذكراتي مع عالم الطباشير عندما أصل بكل سلام إلى العقد السابع من العمر. أما الأسباب العامة فجلها ناتج عن الوضع المزري للقطاع؛ ولكوني صرت أتراخى في القيام بواجبي نتيجة المشاهد الباكية، ولست قادرا على مكابدة التمثيل مقابل أخذ الراتب. فقررت التخلي عن حمل الطباشير نيابة عن جميع الصامتين والخائفين والحالمين، فربما يحرك هروبي المياه الراكدة في هذا القطاع، وفي قلوب طواقمه كما هو شأن الأحداث التي تبدأ دائما بحدث مغمور وتافه، فقررت أن أحرق علاوات الشتاء وراتب نوفمبر وما سيتبعه لتدفئة عمري وصحتي ونفسي.
أطلب من سكان فصالة الطيبين وتلاميذ ثانويتها أن يسامحوني على ذلك الوداع الصامت والبارد صبيحة الجمعة، والخالي من طعم التوابل الحارة التي يحبونها كثيرا، أعتذر منهم اعتذارا عصارته المحبة والاحترام بالإضافة لطاقم المؤسسة والحمد لله على قرب وصول العقدويين لتعويض النقص.
أتمنى من كل قلبي إصلاح التعليم، الذي أغادره دون أن أحمل معي أي حقد وضغائن بالرغم من أن كثرة المظالم في أعماقه وكذلك الفساد المستشري يصعب الخروج منهما براتب حلال 100% وبقلب نظيف ولسان صدق.
سأعود إلى نفسي بعد ستة أعوام من الغربة القسرية في عالم الطباشير، وهو عالم كان يشكل منفى لروحي ويطوق عمري بين كماشتين؛ هما تأنيب الضمير والقيام بأشياء لا أجد المتعة مطلقا في مزوالتها. عندما خرجت منه شعرت بأني هرمت قبل الأوان، وأنني كنت مخطئا عندما تراجعت قبل ستة أعوام عن قرار الاستقالة منه وأنا في عام التخرج من المدرسة العليا لتكوين الأساتذة لما استمعت لعبدة الوظيفة العمومية وتركت أجراس قلبي صامتة. أقول هذا الكلام رغم عدم الحاجة لقوله، فقط؛ ليكون درسا مفيدا لكل الذين قرروا دخول تجارب لا يرون أنفسهم في تلك المرايا المعلقة على جدرانها. الحياة قصيرة ويجب علينا أن لا نذيب نصيبنا من ألحانها بداخل صدى الآخرين. كنت سعيدا وأنا أخرج من التجربة؛ رغم أنني خرجت منها مثلما يخرج السجناء غالبا؛ بحقائب فارغة ولكن بقلوب عامرة بالتوهج والطاقة. المضحك أن طلبة درستهم صاروا الآن موظفين؛ أتصل علي أحدهم ليسدي لي بعضا من النصائح والمؤازرة والتوجيه بينما سأسعد بزمالة آخرين منهم في عالم البطالة السيئ الصيت.
سأفتقد كثيرا احترام التلاميذ ونظراتهم الصباحية؛ وربما أفتقد أيضا رسائل بنك BMCI نهاية كل شهر، لكن: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ.
هنا لعيون. الجو صحو وجميل والساعة 15:41. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.