لا تزال مقولة التخصص في التعليم والإنتاج المعرفي في المشرق العربي تثار بين حين وآخر، رغم أنها ربما قد عفا عليها الزمن في مجالات التعليم والبحث والإنتاج العلمي والمعرفي عالميا.
وكانت حقبة السبعينيات الماضية قد شهدت صدور ترجمات عربية لأعمال عالم المستقبليات الأميركي ألفن توفلر (1928-2016)، مثل "صدمة المستقبل" وغيره.
ناقش توفلر الثورة الرقمية وثورة الاتصالات وثورة الشركات وتطور تقنيات الحرب ومآلات الاجتماع ومستقبل الرأسمالية وتأثير التقنية وفائض المعلومات على حياة الناس.
الموجات الثلاث
في كتابه الأشهر "الموجة الثالثة"، طرح توفلر ثلاثة أنواع من المجتمعات، مستندا إلى مفهوم "الموجات" التي تغير طبيعة المجتمعات والثقافات السابقة.
وتحدث في كتابه "إعادة التفكير في المستقبل" عن أمية القرن الراهن: "الأميون في القرن الجديد هم الذين ليست عندهم قابلية لتعلم الشيء ثم محو ما تعلموه ثم تعلمه مرة أخرى".
لكن الأهم أنه ربط كثيرا مما سبق بتوجه التعليم والبحث والتطوير والابتكار نحو مجالات عابرة للتخصصات، وأهمية التفكير والاستقراء المعرفي الشامل، وردم الفجوة بين الإنسانيات والعلوم الطبيعية والهندسية، وجسر الهوة بين النظرية والتطبيق. وهذا ما أدى بالفعل إلى القفزة التقنية الهائلة في العقود الأخيرة.
في السياق نفسه، شدد توفلر على حاجة الاجتماع لمهارات ومعارف تتجاوز التقنيات الفنية، وأن يتمتع أصحابها بوعي ودراية إنسانية وعواطف ووجدان. فالمجتمعات لا تعمل بالأوراق والحواسيب وقواعد البيانات وحدها.
أسطورة معاصرة
في حديثه للجزيرة نت، يقول أستاذ العربية وآدابها في جامعة المنوفية الدكتور خالد فهمي إن من الأساطير المعاصرة توظيف التخصص لرفض بعض الآراء وإسقاطها بدعوى صدورها عن غير متخصص، والحقيقة أن هذا الرفض والإسقاط نوع من الشغب باسم العلم.
ويعزو فهمي ذلك لفهم خاطئ لطبيعة التخصص وسوء ترسيم الخرائط المعرفية لموضوعات وحقول المعرفة، وتعقد الظواهر العلمية في العلوم الإنسانية.
ولعل ما جنح بمن يتترسون بمقولة التخصص ويردون منجزا علميا بدعوى صدوره عن غير متخصص، هو الانطلاق من رؤية "ذرية" (معالجة بحثية غربية تفتت الظاهرة وتنغلق عليها عند الفحص)، حكمت مسيرة الاشتغال بالعلم في الغرب ردحا من الزمن.
لكن طول العكوف على قضايا حقل بعينه ومداومة الاشتغال بها يمثل نمطا فريدا وشائعا من التكوين العلمي، يجعل صاحبه متخصصا في هذا المجال.
يزيد الأمر وضوحا أن يكون الباحث عالما نشأ في المجال الثقافي العربي الإسلامي، نظرا لطبيعة يرسيها القرآن الكريم بوصفه كتابا مؤسسا للاشتغال البحثي ولنمط مركب من التفكير يدفع نحو التعليل والبحث عن الأسباب والظاهرة المباشرة وراء المسائل محل التباحث.
قضايا مركبة
ويضيف فهمي أن هذا الكتاب الكريم مسؤول بالدرجة الأولى عن تأسيس ظاهرة العلماء الموسوعيين في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية.
ويلفت فهمي أيضا إلى أن الواقع المعاصر يشهد نماذج لا حصر لها استطاعت خدمة قضايا مهمة جدا يبدو ظاهريا أنها بعيدة عن "التخصص"، فالمستشرق المؤرخ برنارد لويس يؤلف كتابا مهما جدا عن لغة السياسة في الإسلام يعد مرجعا فريدا للسانيين، والفيلسوف عبد الرحمن بدوي أحد أهم من رفد مجال الفيلولوجيا (فقه اللغة) وتحقيق النصوص التراثية بمنجز بالغ الثراء والدقة؛ وغيرهما كثير.
العبرة في الحكم على ما يصدر من علم مرهون بتوافر شروط المنهج واستيعاب جمع المادة وتصنيفها وتحليلها واستخراج نتائجها والتنبه للملابسات المتعددة المحيطة بالمسألة محل البحث.
وهذا يجعل العلم صناعة بأسس وقواعد تفرض توسيع الأفق العلمي عند الاشتغال بقضية ما، مع اليقين بأن كل القضايا مركبة وتحتاج لتضافر الاختصاصات سواء قام بها فريق علمي أو نهض بها عالم موسوعي.
العلوم الاجتماعية
وفي حديثه للجزيرة نت، يضرب مدير مركز الدراسات المعرفية بالقاهرة خالد عبد المنعم مثالا من العلوم الاجتماعية، فهي مصطلح يشير إلى عدة تخصصات أكاديمية تهتم بالمجتمع وعلاقات الأفراد والجماعات داخل المجتمع وتعتمد مناهج تجريبية، وعادة ما يستخدم كمصطلح شامل للإشارة إلى علوم الإنسان والاقتصاد والسلوكيات والاجتماع، ويشمل بمعناه الأوسع علوما إنسانية كعلم الآثار والدراسات الإقليمية والثقافية ودراسات الاتصالات والتاريخ والتشريع وعلوم اللغة والسياسة.
هذا يظهر بلا شك القدرة التوليدية للنهج العابر للتخصصات، فكلما كانت الظاهرة أكثر تركيبا اقتضت دراستها تخصصات أكثر تتقاطع عندها وتستكشف مختلف جوانبها وتقدم نماذج أكثر قدرة على تفسيرها، بتعبير المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري.
وكان المسيري يحذر الباحثين والمفكرين من ثلاثة ذئاب: ذئب الشهرة، وذئب الثروة، والأهم الذئب الهيغلي (نسبة إلى الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم هيغل)؛ ويعني به نهج هيغل التخصصي الاستقصائي في البحث العلمي الذي يقتضي من الباحث استنفاد كافة المصادر والاطلاع على كل ما صدر ويصدر حول ظاهرة أو قضية ما قبل أن يبدأ في الإنتاج المعرفي. بالمحصلة يتم إغراق الباحث حتى يعجز عن الإنتاج.
ويذكر كاتب هذه السطور في لقاء بالمفكر اليمني الراحل إبراهيم بن علي الوزير في واشنطن منذ ثلاثة عقود، أنه كان يتحدث عن المنجز العلمي لعلماء اليمن في العصر الكلاسيكي، فأشار الوزير إلى غزارة إنتاجهم وتنوع اهتماماتهم، واستشهد على ذلك بقول أحد المستشرقين إن كل عالم من علماء اليمن الكلاسيكيين يستحق عشر درجات دكتوراه في عشرة تخصصات مختلفة على الأقل.
الدراسات البينية
في هذا السياق، ذكر أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة الدكتور محمد صُفّار -للجزيرة نت- أنه خلال رئاسة الدكتورة نادية مصطفى لقسم العلوم السياسية في جامعة القاهرة، عقدت في القسم سلسلة محاضرات منشورة عن الدراسات والمجالات "البينية" في العلوم الإنسانية، وتأكد أن مقولة التخصص ذي الأسوار المنيعة سقطت من القرن الماضي، وأن كافة موضوعاتنا الدراسية الراهنة تقع في المساحات البينية.
كذلك شهدت كلية دار العلوم بجامعة المنيا مؤتمرا دوليا بعنوان "الدراسات البينية في العلوم العربية والإسلامية في ضوء التسارع التكنولوجي والمعرفي" (24- 26 مارس/آذار 2019)، كمحاولة لتجسير الفجوة بين العلوم بعد تشعَّبها غير المسبوق.
ويعرف أستاذ الفكر الإسلامي بكلية دار العلوم في جامعة المنيا الدكتور محمد صالحين، الدراسات البينية كبحوث معمقة لا تكتفي بالتخصص الدقيق بل تتوخى الكشف عن مناطق التخوم: التجاور، والتلاقي، والتقاطع، والتشابك، والتقارب بين المعارف؛ فتجمع بين نظرة تخصصية وأخرى موسوعية، وتبرز تكاملا معرفيا بين كافة العلوم بات من ضرورات المنهج العلمي في عصرنا.
ولفت الدكتور صالحين -في حوار مع إسلام أون لاين على هامش المؤتمر- إلى أن العلوم الإنسانية والتجريبية مرت بأحقاب عديدة بدءا بالمرحلة الموسوعية إلى المرحلة التخصصية العامة ثم مرحلة التخصص الدقيق ثم مرحلة التشظي الأدق. والآن نعود إلى مرحلة الموسوعية المعرفية لكن من باب: الدراسات البينية.
ويشير إلى أن أسلافنا عرفوا الدراسات البينية على مستوى معارفهم الزمنية في حقبهم، وكثير منها كان متقدما بمقياس عصورهم وبيئاتهم، واتسعت الفجوة بمرور الزمان، حتى أصبح من الضروري بناء جسور لسد الفجوات بين العلوم.
المصدر : الجزيرة نت