ترجمة الكاتبة : Eddehma rim - لم أعد أكتب، حتى إلى أبي، مأخوذا بصحرائي، لم أعد أفكر في مدينتي "كاسكوني"، أتبختر بين الآبار والمراعي، منشغلا بإبلي.. مايو من صيف 1934م طبعه الصمت الطويل، لم يعلن عن أي "غزِّي"، الاسبان أنفسهم يشعرون بالأمن، لا يتوفر الإسبان مثلنا على رماة، لكنهم شكلوا وحدة بدو من البظان الواقعين تحت سيطرتهم، ، ويبدو أنهم اتجهوا نحو "اسماره"، وهي أول مرة يغادرون فيها المراكز الساحلية.
يقول البظان إن زمن الخوف قد ولَّى، لكن لا اطمئنان مع المنشقين، لقد فهموا أن النصارى يعيشون حالة نزاع بينهم، وأن بمقدورهم الحصول على الوثائق المدنية من أطار، ومن "تيندوف" أو من "اكليميم" والأمر نفسه في المناطق التي تحل اسبانيا، وبالتالي يَعبُر "اركيبات" كل الحدود في راحة بأكثر من بطاقات في الجيب، وابسط تراخ سيعيدهم إلى حمل السلاح وذلك ما نخشاه.
في شهر يونيو سيغادر أحسن الرماة الى السنغال، لا يمكن أن أنسى ما تقاسمتُ معهم من تجربة متميزة.. نزلت "الصنكه" ثانية "بأم اظفيرات"، عدنا إلى قواعدنا، نريد أن نتعرَّف عن كثب على الناس وعلى المراعي والقطعان.. علمنا أن "اركيبات" يخيِّمون في المنطقة عند "كَلب التزركَاف" في منبع الواد، الطلائع لم يروهم، اصطحبتُ 20 من "كوميات" مع قائدهم وكان من بينهم مُكتتب جديد في فرقة البدو من "اركيبات" وهي مناسبة لاختبار ولائه، وقد اجتهد أثناء المهمة في تضليلنا عن مخيّماتهم.
في السنة الماضية، 1933م اقتربت مفرزة من "اركيبات" من "الصَّنكة" التي كانت تحت قيادتي.. قائد "اركيبات" محارب يدعى احمد حمادي صحبة ابن عمه الشيخ الكوري، ولم يهاجمونا!، استغربتُ وقتها، وشغل الأمر فضولي طويلا إلى التقيتُ بنفس الرجل في السِّلْمِ سنة 1958م، في "فُورْ اترينكي" (بئر أم اكرين)، سألته عن أسباب احجامهم عن الهجوم، فأجاب "اركَيبي": «لقد لاحظنا وجود المدافع الرشاشة، وقدَّرْنا أنه حين نهاجم سنتعرض لخسارة كبيرة، المسألة لا تعود للخوف، فيقيننا أن لكل عملية ثمن وخسارة، لكن ماذا سنربح؟، بضع جمال هزيلة، لن تُوصِلنا للحدود الاسبانية وستجعل مددكم يلحق بنا».
"اركيبات" غير مجانين، فمنذ غزي "تيكيكيل" تخلُّوا عن تعريض أنفسهم لخطر غير محسوب.
- ما هو "غزي تيكيكيل" ؟ ، أجابني "الكَومي" العيد ألم تسمع "بغزِّي السّودان"؟
هي قصة قديمة.. سألتقي بعد عقود في مخيم الصحراويين سنة 1994م، برجل يدعى الطالب ولد بلخير أحد الناجين من غزي "تيكيكيل" ليروي لي عن المعركة..
انطلق " "غزي" من "اركيبات" من شمال موريتانيا، بقيادة لعروصي ولد باب حمو كانوا في حدود 120 شابا، من أحسن المحاربين، ومن الأسر النبيلة لقبيلتهم، انطلقوا من بئر تسمى "عين عبد المالك"، في "إكيدي" (الساحل) لمهاجمة فرقة البدو التابعة للجيش الفرنسي في الحوض قرب النعمة في السّودان (مالي حاليا)، وحين عودة "الغزي" بعد العملية لم يبق منه إلا خمسة فقط.
كان الوقت ربيعا، أخذت منهم المسافة 15 يوما للوصول الى الحوض، مرورا "بالحنك"، "أكاركتم"، و"الكصيب"،.. حين وصلوا السودان التقوا أشخاصا أخبروهم أن الفرنسيين علموا بشأنهم، وأن أحد أبناء عمومتهم قد خانهم وبلغ عنهم، وفعلا كنتُ في أطار حين قدم ابن عمّ قائد "الغزي" ليشي به عند قائد الدائرة في أطار ولم يكن وحده.. اقترح المحاربون تعديل الخطة، لكن قائدهم لعروصي اعترض على ذلك، وكانوا وقتها قرب سبخة، غير بعيد من الثكنة، فدلَّهم المتاجرون بالملح على أماكن وجود الفرنسيين.. حطوا شمال "كَلب تيكيكيل" وكان الفرنسيون على حافته اليمنى، توجه لعروصي للبئر مع طليعة من خمسة عشر مسلحا تجربتهم مبتدئة، شرح لهم أحد الرعاة طبيعة توزُّع "المهاريست" والرماة و"كَوميات" في الموقع، ونوع أسلحتهم.
توزع "الغزّي" على فرق، هاجم لعروصي جهة الوسط مع الشيخ امبارك، هاجم اسلامه محمد بوزيد من الغرب، وهاجم سيدي محمد مخلول وامبارك اميليد مخيم "كوميات" ، كان الراوي الطالب ولد بلخير بصحبة اسلامه ولد بوزيد، اقتربوا حَبوًا على الأرض، لاحظوا وجود رشاشين على ضوء القمر، كان بإمكانهم انتظار أفول القمر!، رفض لعروصي، إنه القدر، صاح بهم الخفير سائلا عن كلمة السّر، لم يرد أحد، واصلوا الزحف على البطون صاح ثانية، فأطلق لعروصي الرصاص اتجاههم واندلعت المعركة،.. تصاعد صراخ نساء "كوميات"، واندفعن باتجاه "الكَلب" صحبة اطفالهن، في الأثناء فتح لعروصي ممرا في السياج المحيط بالثكنة ليجد نفسه في مواجهة نار الرشاشات مباشرة.. هكذا توفي.
تواصل القتال من جانب الخيام، نفذ "الغزي" المهاجم مذبحة في "كَوميات"، لم يبق منهم إلا سبعة جرحى، بينما كانت السيطرة على " الصنكَه " أصعب بسبب النيران التي تضخها الرشاشات، وكلما أُسقِط رامٍ عوَّضه رفيقه.
تعرض فريق لعروصي لخسائر فادحة، بينما كان فريق الطالب أقل خسارة، لأن الفرنسيين وجهوا دفاعاتهم باتجاه المصدر الأول لإطلاق النار، ثم إنَّ الرماة ذعروا، فبدلا من مواصلة القصف حفروا خلف المدفع ليحتموا، فمال المدفع وتغيرت زاوية الرماية بعد ان اتجهت فوهته للأعلى.
دخل "اركيبات" الى " الصَّنكَه "، وتوقف إطلاق النار في حدود السابعة صباحا، الناجون من "الصنكَه" منعهم الذعر من مغادرة حفرهم، لم يخرجوا حتى رأوا "الغزي" ينسحب مع جرحاه.
كانت المعركة نصرا مظفرا ل"اركيبات" ، غنموا الكثير من الأسلحة والذخيرة، والمؤمن بأنواعها. هشَّموا الأسلحة الأتوماتيكية التي لا يستطيعون حملها، فالبدو الرحل لا يملكون حصونا تحتاج المدافع الأتوماتيكية.
سألته: هل أخذتم الأثاث والحلي؟ فأجاب: «لا، نحن أهل سلاح، شرفنا لا يسمح بسلب متاع النساء».
كَمَنَ الفرنسيون "للغزي" في طريق العودة، والذي توزَّع إلى فريقين بُغية التقليل من خطورة المتابعة، الفريق الأول يقوده السّني ولد الدرويش، اتجه شمالا نحو "بئر لكَصيب"، بينما كان الطالب في الفريق الثاني مع 35 رجلا وأربعة جرحى و10 جمال من الغنيمة، ساروا جنوبا باتجاه "تنبدغه"، وبين "النعمة" و"كيهيدي"، اقتلعوا خطوط "التلكراف" حتى لا يتم إخطار فرقة البدو في "أزواد" بسرعة.. لكن ذلك لم يُجدِ، فقد أرسل النَّصارى فريقا من "مهاريست" موريتانيا والسودان (النعمة) ليقطعوا عليهم الطريق عند "بئر لكصيب" لكونها مررا إلزاميا بين موريتانيا والسودان خصوصا في الصيف، فهي البئر الوحيدة على الطريق.
نزل الجيش الفرنسي البئر بفرقتين، فرقة من "آدرار" يقودها نقيب، وفرقة من "أزواد" يقودها ملازم، نصَبوا رشاشاتهم وأحاطوا "بغزِّي اركَيبات"، حاول ثمانية شبان الهرب فقتلوهم، تنازع الضابطان بعنف حول مصير البقية، فقد رأى النقيب ضرورة قتلهم فورا، في حين رأى الملازم أسْرهم، في النهاية اتفقا على تقسيم الأسرى بينهما، أخذ كل واحد منهما ستة عشر محاربا بشكل عشوائي دون السؤال عن الاسم أو الأصل، فقتل النقيب نصيبه من الأسرى في عين المكان، ورحل الآخر بنصيبه الى "تمبكتو"، حيث سيحاكمون، ثم يعدمون لاحقا.
في الأثناء واصل فريق الطالب التسكع جنوبا، ذهبوا حتى ضفاف النهر، أخذوا وقتا، ثم غيروا واتجهوا صوب "بئر لكصيب" عانوا العطش الشديد في الطريق، بقروا إبلهم تباعا لاستخلاص الماء من بطونها، وصلوا إلى البئر فاكتشفوا بقايا جثث أبناء عمومتهم بعضها غير مدفون، فدفنوها وواصلوا شمالا متجهين إلى أرضهم التي وصلوها فرادى حسب طاقتهم كل منهم على تحمُّل مشاقِّ الرحلة.
--- انتهى ---