ولد الرباني يرد على مقال الكنتي :صمدت دمشق وصمدت الدوحة... وسقط اثنان

أربعاء, 21/06/2017 - 00:05

في عالم الجانحين هنا يستخدم مصطلح (اتنب) أو ما يعرف في العامية بالسبق إلى القلب، (المباغتة) هذا الأسلوب يحتاج مستوى من الشجاعة والمهارة، وإلا انقلب السحر على الساحر وبان ما تحت التشاجع من جبن وما خلف التجاسر من خور.
ليس الكنتي من رجال المباغة رغم أن قراءته للفلم الأمريكي "العراب" محاولة في هذا السياق.
فيلم " العراب " الأمريكي الشهير يحدث للكنتي معاناة نفسية قاسية، إنه يذكره مأساة أولياء نعمته، فهو حين يشاهد الفلم أو يقرأ عنه، لا تجد عائلة أشبه بعائلة كورليوني في صراعها مع العائلات الأخرى للسيطرة على "الوطن المستلب" من عائلة القذافي التي عقدت على السلطة عقدا غير شرعي دام عقودا وباركته أجيال متعاقبة من الطبقة الراقية، "رجال أعمال، سياسيون، قضاة، محامون، ورجال عصابات ومجرمون. قدم الجميع الهدايا والمجاملات" المعبرة عن الولاء للقذافي... وكانت نهاية القذافي رأي عين شاهدها الملايين عبر العالم، كانت نهاية من قبيل الحقائق التاريخية لا من قبيل نهايات كتاب السيناريو، ولا أحلام اليقظة ولا أماني الموتورين.
ذلك هو أقرب واقع عربي يمكن أن يتنزل فيه فلم "العراب" تنزلا غير متكلف ولا ممجوج، أما مضمون الحديث عن قناة الجزيرة أو "علبة الكبريت" كما وصفها حسني مبارك -وتبعه الكنتي غير آبه بالحقوق الفكرية كما اعتاد- فهو حديث معاد لم يعد اجترارا لأفكار وألفاظ لاكها في مقاله "جزيرة الشيطان" سنة 2011.
حسب الكنتي مرت الجزيرة بمرحلتين:
- المرحلة الأولى ما بين النشأة 1996 إلى ما قبل الربيع العربي 2010 (14 عاما) في هذه الفترة كانت الجزيرة حسب الكنتي: " ... وسيلة الإعلام العربية الأكثر مشاهدة. فكانت، في الأخبار مثل جهينة، وفي الفقه مثل الإمام الأعظم، وفي المناظرات مثل النَّظَّام، وفي الجمع بين الآراء المختلفة مثل إخوان الصفا...
كان "حصاد اليوم" يحصد عقل المشاهد بالأخبار الطازجة، والتحليلات العميقة، التي تجعله عالما بحقيقة ما يجري من حوله، مطلعا على خبايا الأمور. وكان "الشريعة والحياة" يمده ب"فتاوى معاصرة"، وينحو به "نحو فقه ميسر معاصر"، يجعله ينتظم في سلك الوسطية، لتظهر له "ملامح المجتمع المسلم...". وكان "أكثر من رأي" يوسع أفقه بطرح قضية لنقاش هادئ ..."
- المرحلة الثانية: ما بعد الربيع العربي: أصبحت فيها الجزيرة بعيون الكنتي: "... طغى رأي واحد يسمعه المشاهد، من تونس إلى عدن، فسقط بذلك شعار القناة "الرأي والرأي الآخر"، لتنتقل من رواية الأخبار بسند ضعيف، إلى اختلاقها، وبذلك تجاوزت سريعا مرحلة التدليس، إلى مرحلة الوضع... خبر عاجل: أبناء مبارك، وبعض الشخصيات المهمة فروا بعائلاتهم إلى بريطانيا... ثروة مبارك بلغت (75 ) مليار دولار... سقوط عشرات "الشهداء" في الإسماعيلية، والإسكندرية، و...و... ولم يغادر مبارك، ولا أبناء مبارك مصر حتى اليوم، ولا دليل، حتى الآن، على أن الرجل يملك هذه الثروة الطائلة، ولم تتأكد، حتى اليوم، أعداد الشهداء التي روجتها الجزيرة! كانت الجزيرة تختلق الأكاذيب، مع سبق الإصرار، تدس في الحقائق، كما يفعل السحرة... ثم جاء يوم الزينة، في أحداث ليبيا، وحشر الإعلام ضحى، فألقت الجزيرة بحبالها، وعصيها، وقالت ل"ثوار ليبيا" بقصف "النيتو"، وتحريضنا، أنتم الغالبون... فاكتشف المشاهدون أن ما جاءت به الجزيرة الكذب... خبر عاجل: القذافي هرب إلى فنزولا. المدن الليبية، بما فيها طرابلس، تقصف بالطيران... المرتزقة الأفارقة يبيدون الليبيين في بنغازي... القذافي يقصف ميناء مزدة... الكتائب تغتصب النساء،... لا يزال القذافي في ليبيا حتى اليوم، ولم تقصف مدينة ليبية واحدة، ولم تثبت أي جهة محايدة وجود مرتزقة، أو حالة اغتصاب واحدة، ومدينة مزدة تقبع "
لا يقدم الكنتي مظاهر موضوعية من هذا التحول الفجائي، ولا يقيم عليه أدلة مقنعة، فاختفاء برنامج واستحداث برنامج إجراءات فنية اعتيادية، وتداول الأخبار عن شهود عيان ووسط الحديث عن كذا ونحوها عبارات تتداولها أكثر وسائل الإعلام عراقة في كل خبر ليس مصدره مراسلها أو وكالة معتمدة ولم يتأكد من مصدر موثوق، وتلك مزية التثبت الإعلامي.
صحيح أن الجزيرة منحازة إلى صف الثوار بتقدير الكنتي وبشواهد الواقع، وهذا يسعفنا بتفسير مقنع لاتخاذ موقف يعاديها من الدكتور الذي وقف يوما شاكي السلاح دفاعا عن عميد من قامت الثورات للإطاحة بهم، من هنا تصبح شهادة الدكتور على الجزيرة من شهادة العدو على عدوه، مردودة بالعقل والشرع، ويكون العمر الذي لبثت الجزيرة من قبل الربيع شاهد عدل لا يقبل التجريح.
سبق أن قلت إن الكنتي كاتب أصيل حين يجرد قلمه للإبداع الأدبي لكن محتوياته الفكرية تنبو قليلا عن مستوى الصفر، وتحمل خصائص مميتة نلم منها هنا بخاصيتين:
- الانهزام النفسي أمام ثقافة الآخر: يقف المتابع لكتابات الكنتي حائرا أمام شغفه العميق بثقافة الغرب وأدبه، لا يبدو حسن الاستهلال لدى الكنتي متحققا إلا بطرفة غريبة أو مغزى فلم أو رواية غربية أو لوحة رسام غربي يستلهم ذلك وينفعل به انفعالا من لا يجد ذاته في غيره.
إن سعة الثقافة محمدة، والاطلاع على آداب الغرب يوسع الآفاق، ويمنح الكاتب بعدا عالميا، لكن حين تبدو أشبه بمصدر الاستلهام الوحيد فإن ذلك يشي بهزيمة نفسية واستلاب مكين، قد يقول مجادل وما ذا عن ما تعج به بعض كتابات الكنتي من الآيات القرآنية والأحاديث والأشعار، أقول عن النقاش العلمي أمر والتوظيف والاستلهام أمر ويدرك ذلك المختصون.
قل أن تجد كاتب عربيا منذ عهد جبران خليل إلى اليوم إلا وهو يحسن أكثر من لغة، ومع ذلك قلما تجد فيهم -بما في ذلك المحسبون على التيارات التغريبية- من ابتلي بهذا الداء كما ابتلي الكنتي فما السر في ذلك يا ترى؟
في إحدى المقابلات التلفزيونية إثر تعريضه بالشيخ الددو استعرض مقدم البرنامج مسيرة الشيخ العلمية وذكر منها الحصول على الباكلوريا شعبة الآداب، استوقفه الدكتور حتى يؤكد له أنها الآداب الأصلية وليست العصرية بنبرة لو أن صاحبها خريج جامعة كامبردج أو السربون أو الجامعة الأمريكية لوجدت تفسيرا يطبعه الاستهجان أما أن يكون صاحبها خريج جامعات ليبية تأتي في ذيل التصنيف العالمي فتلك من الرزايا.
- التناقض: هذا التشبث الذي أسلفنا بآداب الغرب –والآداب قيم- تقابله سلفية جمودية متجذرة، يكاد صاحبها يسطو بأصحاب التيسير والوسطية فهو يتحدث عن سماحة الشيخ القرضاوي بسخرية السلفي الجامد قائلا ".. لسانه رطب بكلمات "حلال، جائز عند الصنعاني، قال به الخوارج، وسكت عنه داود..." ولم يكن يدعو للحكام وإنما يدعو عليهم... شقق الفقه، حسب اجتهاده القائم على "التيسير" الذي يحل للمراهقين جل عاداتهم، العلني منها والسري، ويبيح للمسلمين في المهجر ربا النسيئة لشراء البيوت، أما الوسطية فقد ذهبت بالشيخ الدكتور إلى رد بعض الحدود؛ مثل رجم الزاني الثيب، وقتل المرتد... وبذلك بدا لنا "مدشن الإصلاح الديني" على خطا لوثر وكالفن ".
الطريف أن من أكثر عادات المراهقين شيوعا، متابعة الأفلام واستماع الموسيقى وهي ممارسات اعتادها الكنتي كما تنطق كتاباته، فهل الشيخ مصيب في فتاويه؟ أم الكنتي من الذين ينهون عن المنكر ويأتونه، ويأمرون بالمعروف ويجتنبونه؟ وإذا كان ربا النسيئة لا يجوز للمهاجرين لشراء السكن فهل يجوز للمضاربات بين المسلمين في ديارهم كما تفعل البنوك التقليدية في الجمهورية الإسلامية الموريتانية ؟ ولم لم ينكره الكنتي؟
الأغرب مما تقدم أن انتقاد القرضاوي في فتوى عدم قتل المرتد لم يصحبه حرف واحد في المطالبة بإعدام ولد امخيطير ومن في حكمه.
لست مع القرضاوي في بعض تلك الاجتهادات وكتبت ذلك في مقالات معروفة، لكنها أقوال اتفق في بعضها مع الشيخ عبد الله بن بية أو الشيخ سعيد رمضان البوطي رحمه الله أو هما معا، والشيخان محل ثناء وتقدير من الدكتور، وهكذا يكتب سلسلة مقالات بعنوان "لاهوت التبرير" في نقد ما اعبتره علمنة وتحللا إخوانيا من ربقة الدين بحجة النظرة المقاصدية، غير أنه لا ينبس ببنة شفة اتجاه مقاصدية الشيخ عبد الله بن بية وهما من مشكاة واحدة.
المؤسف أن الكنتي يفرض على متابعيه الموضوعيين مهما راقهم أسلوبه، أن يستنبطوا بيسر، أنه من الذين التقمت أقلامهم أمعاؤهم فما تخط إلا بوحي منها.
يباع السنوسي فتصدر الأمعاء إلى القلم واللسان رسالة عصبية: أن اخرسا.
تساند بعض الدول الخليجية الثورة الليبية كل من حساباتها الخاصة، فتوجه الأمعاء سهام اللسانين إلى حيث تتوجه سهام النظام (قطر)، فرغم مرور أكثر من خمس سنوات على الثورة لم يستهدف الكنتي الدوحة بشكل مكشوف قبل أن بارزها النظام اليوم بالمجافاة، أما المملكة العربية السعودية فما تزال الأمعاء تصدر إشارات حمر دونها، باعتبارها ما زالت في حمى صاحب مراسيم التجريد والتعيين، وبئس مقام الشيخ أمرس أمرس.
حقا صمدت دمشق، وما كان السقوط لها بخلق، مفخرة الإسلام، ومهد الحضارات، منبت العز والشهامة، ومصدر جمال غير مكذوب، هي حسناء عسر مخاضها فعلا جمالها شحوب، وكبا خطوها، لكنها ما تلبث أن ترفل في حللها الحريرية، باسمة الثغر براقة الجبين اللجيني، متوضئة من أدناس المغتصبين، فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا.
وللدوحة شموخ يسامي شموخ لبنان ويذبل والهملايا، دوحة أغصانها العلم والعز والوفاء والثراء والحكمة فأنى لها السقوط؟.
حقا صمدت دمشق والدوحة وصمدت الشعوب، وسقط اثنان:
- طغاة علوا وتجبروا يستخفون قومهم ليطيعوهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون .
- لاعقو أعقابهم المتعطرون بفسوهم -وهو فسو الظربان- أولئك هم البائسون.
الأستاذ محمدن الرباني

تصفح أيضا...