أصدقاؤنا الصينيون / م محفوظ ولد أحمد

اثنين, 15/05/2017 - 21:39

الصينيون أصدقاؤنا منذ سنوات الاستقلال الأولى، ونحن أيضا أصدقاؤهم منذ ذلك الحين، أو قبله بقليل؛ حين سعى الرئيس المؤسس (ولد داداه) إلى حشد التأييد لأخذ الصين الشعبية لمقعدها في الأمم المتحدة، وطرد تايوان منه؛ وذلك ما تحقق بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1971.

إلا أننا لسنا الأصدقاء الوحيدين للصينيين. الصين دولة كبرى، بل عظمى، ومع ذلك ربما تكون الدولة الوحيدة في الأرض التي تصادق كل دول وشعوب العالم (طبعا باستثناء الدلاي لاما، وحكومة تايبه).

وهذا يجعل المرء يتساءل: من هم الصينيون؟ مع أن كل شيء بين يديه من متاع الدنيا يحمل عبارة Made in China (صنع في الصين)؟!

الصين ذلك البلد الهائل في مساحته وعدد سكانه (ربع العالم تقريبا) الذي عرفه العالم، مع انتصاف القرن الماضي، بثورتيه الزراعية والثقافية وحزبه الشيوعي وزعيمه الأوحد ماو تسي تونغ.

لم يضيع الصينيون وقتهم في الجدل حول ثوراتهم تلك، ولا حول “ماو” ولا “شوان لاي” ولا حتى حول “عصابة الأربعة”؛ ولكن ظل الحزب الشيوعي والشعار الاشتراكي، قائمين مبجلين إلى اليوم!.

اليوم، حيث قطعت الرأسمالية الصناعية في الصين أشواطا تجاوزت بها أكبر القوى الصناعية الليبرالية، وأصبحت تنافس مباشرة وبقوة أكبر اقتصاد رأسمالي في العالم (الولايات المتحدة الأمريكية)، وبات أغنياؤها يحتلون مراتب متقدمة في قوائم أثرياء العالم الكبار!.

كيف “صُنع في الصين” كل ذلك؟!

الصينيون يتظاهرون بازدراء السياسة، ويُجِدُّون في احترام الاقتصاد والتجارة، ويسرفون في العمل، ويعشقون ـ كغيرهم ـ الربح والكسب السريع…

ولهذا أقاموا ثلاثيا مقدسَ التشجيع:

1- التصدير إلى كل مناكب الأرض؛

2- جلب الاستثمارات، وجذب صناع الماركات التقنية الكبيرة؛

3 – التواجد المباشر في كافة الأسواق، وخاصة الأسواق الشعبية في دول العالم (حيث يشجع الصينيون مواطنيهم على فتح محلات وورش متواضعة في الأوساط المحلية، وعلى نمطها، لترويج المنتجات والخدمات الصينية، ودراسة توجهات وطبائع المستهلكين…).

4- ورابع الثلاثة هو الاستثمار “التكتيكي” في بلدان الموارد الأولية (الخامات) للوصول إلى استثمارات “استراتيجية” في تلك الخامات الضرورية لتغذية العملاق الصيني الآخذ في البدانة (خاصة في مجالات الطاقة والمعادن والأسماك…)

*

الصينيون في الواقع “أصدقاء” الفقراء وأحباؤهم! فهم يدركون أن المواطنين في دول العالم الثالث ليس في طوقهم شراء “الماركات” البورجوازية الغالية؛ لذلك يصنعون تقليدا لها كلها، يصدرونه للفقراء بأسعار تناسبهم.

وهذا “التقليد” الصيني له فوائد مادية ومعنوية عظيمة؛ فهو يضمن للفقير في موريتانيا وبوركينافاسو مثلا: أن يقتني بدلات تحمل نفس علامات بدلات وزير المالية، واقتناء هواتف iphoneتحمل نفس تفاحة Apple “المكروشة”، ولكنها بأقل من عُشر الثمن! أما فَرْق الأداء فلن يؤثر على “سعادة” الفقير بمضاهاة ذلك المتكبر عدة ساعات أو أياما! وأما مدة حياة المنتج: فالأعمار بيد الله وكل شيء زائل، ولك الساعة التي أنت فيها… فالصينيون هنا يقدرون قوة “الإيمان” لدى فقرائنا في العالم الرابع!

مع ذلك لم تعد الصين اليوم بلد الرداءة الصناعية، التي التصقت قبلها بسمعة “تايوان”؛ وتايوان اليوم تضاهي اليابان في جودة وأسعار منتجاتها (ويحدثني بعض الشيوخ عن أن “Japan” كانت يوما تطلق على الصناعات الرديئة الرخيصة!).

لذلك فنفس استراتيجية التقليد و”التجربة والخطأ” اتبعتها الصين قبل أن تتقن تقنيات الصناعة، وتجذب مصانع أشهرها في العالم. ولكنها مع ذلك احتفظت بالصناعات الرديئة، لتنزل الناس منازلهم؛ فتصدر لدول مراقبة الجودة الجيد، وتصدر لدول محاربة الجودة الرديء! ثم لتشجع مصانعَها الصغيرة الناشئة ـ حتى صناعة تحت السلم! ـ كما تشجع تلك العملاقة على السواء.

*

الصينيون يكرهون المعارضة ويحبون الموافقة، حتى لا نقول “الموالاة”!

وهذه أيضا إحدى فضائل أصدقائنا الصينيين؛ وهي منقبة لها عندنا، نحن الأفارقة والعرب، شأن كبير!

فالصينيون، مثل كثير من الطوائف الآسيوية لهم مذهبان، على غرار الظاهر والباطن: لهم مذهب داخلي خالص لهم، يخضع للنظام والقانون والدقة بصرامة وقسوة. ومذهب خارجي للتعامل مع الغير، قائم على السهولة ومراعاة “الحال”؛ يميل ـ عموما ـ إلى تشجيع واستغلال الفساد والانتهازية، وسوء العاقبة!

إنهم يفضلون التعامل بأريحية مع “العمولات”، وبسترٍ جميلٍ مع “الرشوة”؛ فإنهم قد يضعون مبالغ محترمة تحت الطاولة، ويحسنون تمويه أكياس العطايا النقدية للمرتشين المحترمين!

ولكنهم مع ذلك لا يفرضون شيئا؛ بل لا يعارضون شفافية الصفقات، ومصافحة الموقِّعين بأكف نظيفة، لا “كومسيون” فيها ولا رشوة.

فالمهم بالنسبة لهم أن تتم الصفقة. وحتى لو شعروا أنها غير مربحة، وفيها خسارة مادية، فلهم طرق مناسبة “لتدارك” ذلك أثناء التنفيذ! وهي طرق مرنة أيضا تتبع نفس المنهج “المتسامح”؛ فالمسؤولون في الخارج يتغيرون، والدوائر والإدارات طبقات وبنائق… واليأس ممنوع!!

والنتيجة أنك مهما كنت: فقيرا أو ثريا، مستقيما أو منحرفا، جشعا غشاشا أو متعففا أمينا، تعشق الجودة العالية، أو لا تبالي بغير الثمن… فأنت محل اهتمام الصينيين!

**

وإن الصينيين لمستغِلون.

هذه الأيام ترفع منظمات حماية البيئة وحقوق الإنسان عقيرتها بالتحذير من مخاطر “النهب” المُمحِق للثروات و”المدمر” للبيئة، الذي تقوم به الشركات الصينية في الدول الفقيرة، وخاصة في دول غرب إفريقيا.

فالصينيون يغربلون الآن بشكل خاص شواطئ هذه الدول، التي ظلت ـ بحكم فقرها وضعف استغلالها لثرواتها الطبيعية ـ من أكثر شواطئ العالم ثروة بحرية.

إلا أن صداقة الصينيين وأياديهم البيضاء في مساعدة هذه الدول خلال العقود الماضية، منحتهم الأفضلية في الحصول على اتفاقات ورخص لصيد الأسماك في مياه هذه البلدان، مستغلين إلى الحد الأقصى ضعف رقابتها وفساد أنظمتها على كل مستويات التسلسل الحكومي.

ونظرا لاعتماد الصينيين على عمالتهم الكبيرة الخاصة ـ كالعادة ـ وتسلح سفنهم بوسائل تقنية ولوجستية، ظاهرة وباطنة، كاسحة؛ ولأنهم يؤمنون بأهمية “لحظتهم” فقط، فقد أسرفوا في الصيد، واغترفوا بشباكهم الدقيقة ما بين قاع المحيط وسطحه من الكائنات الطرية… مما نتج عنه شح ونقص خطير في الأسماك أدى إلى إبادة أنواع محلية منها وغلاءٍ مضاعف في أسعار الأنواع الأخرى. وهو أمر يهدد بعض الشعوب بالفقر، والمجاعة مباشرة.

مع ذلك تتمتع بعض شركات الاجتياح البحري الصينية الشرسة في بعض تلك الدول بعقود لمدة عشرين سنة متواصلة… بينما تُحدَّد فيها عقودُ جهاتٍ أخرى أقل شراهة وشراسة، في الظاهر، بسنتين فقط!!

تصفح أيضا...