اصطحب الموريتانيون معهم -وهم يَلِجُونَ عصر الدولة الحديثة- عاداتٍ سلبية كثيرة؛ ورثوها من عصور البداوة الطويلة.. من قَبِيل التبول في الطرقات، والبصاق كيفما اتفق، وعدم احترام الطابور، والصراخ في الشارع...
وأخشى أنهم دخلوا عصرَ شبكات التواصل الاجتماعي بسلوك لا يقل سلبية عن تلك العادات؛ ألا وهو ضيق الأفق، والضجر من الرأي المخالف، والتشنج في الحوار..
تذكرت هذا حين طُرحت قضية تغيير النشيد الوطني قبل أيام على بساط البحث في الشبكات الاجتماعية والمواقع الإلكترونية..
وليست هذه هي المرة الأولى التي يُثَار فيها موضوع تغيير النشيد الرمز.. لكن النقاش احْتَدَّ حين طُرِقَ الموضوع من جديد، وسَلك سُبُلاً جَافَتْ أدبَ الحوار وسعةَ الصدر؛ التي تُنتظر مِنْ أمثال مَنْ يتصدى لمثل هذه المواضيع..
وقد لاحظتُ أن هذا النقاشَ يُعطي صورة مصغرة عن الجانب السلبي في كيفية تعاطينا مع الأمور.. مثل محاكمة الضمائر، والتشكيك في الدوافع والنوايا، وسرعة إطلاق الأحكام الجاهزة...
ما السبب الذي قد يدعو شخصا ما إلى المطالبة بتغيير النشيد الوطني؟ لا شك أن هناك احتمالات عِدَّة..
وهناك طريقتان لمعرفة الدافع الحقيقي لتلك المطالبة:
أولاهما أن نختارَ واحدا من هذه الاحتمالات من تلقاء أنفسنا ونُلْزِمَ به المسكين، على طريقة "اشْرُبْ ذَ والَّ نَرشْمَكْ"..
وثانيتهما -ولعلها الأجدى- أن نَقْنَعَ بالسبب الذي ادَّعاه لنفسه، ما دام شَقُّ قلبِه والكشفُ عن محتواه غيرُ ممكن..
لقد أَبْعَدَ النُّجْعَةَ قومٌ أقحموا الإسلام والعلمانية في هذا النقاش، وظنوا أنهم أحاطوا بمجامع الموضوع حين قرروا أن الأمر لا يعدو أن يكون وجها من أوجه الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين!
والواقع أن من يطالبون بتغيير النشيد، وإن كان يُحتمل أن العلمانية أحدُ أسبابهم؛ فإن أسبابا وجيهةً أخرى من بين دوافعِهم، وليس أقلَّها أهميةً خُلُوُّه من مضامين التعلق بالوطن والتغني بأمجاده وذكر مفاخره، والالتفات إلى تعدد أعراقه، والاستعداد للبذل والتضحية في سبيله...
أما معارضو تغييره فيختلفون بدورهم في أسباب هذه المعارضة، فمنهم محبو الشيخ باب رحمه الله ومريدوه والمتعلقون بتراثه، ومنهم "الذرائعيون" (نسبة إلى سد الذرائع) ذوي الحساسية المفرطة، الذين ينظرون إلى كل شيء بعين الرّيبة، ويرون أن في كل جديد بدعة قد تستأصل الدين وتأتي على بنيانه من القواعد..
وقد تأملت كلا الرأيين فأدركت أن الخطبَ هيّنٌ في هذا الخلاف..
فلا من يُتَّهَمُون بأن العلمانية هي دافعُهم لتغيير النشيد الوطني؛ يعترضون على المضامين المتعلقة بمحبة الله ورسوله والولاء لهما، والسعي في نشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة...
ولا من يُعْتَقَد أنهم يحرسون النشيد الحالي باسم الإسلام؛ يرفضون أن يحتوي على مضامين من قبيل تمجيد الوطن والتعلق بتربته...
* * *
قبل تسعين سنة، كتب العلامة الجليل الشيخ باب ولد الشيخ سيديا؛ نصيحة أخوية جميلة المعنى والمبنى في عِزِّ اشتداد الصراع بين الفقهاء (أهل الظاهر) والمتصوفة (أهل الباطن).. أوصى فيها بلزوم السنة، وإيثار ظاهر الشريعة على غيره، وترك المراء والجدال في الدين، وهجر أهل البدع وترك مخالطتهم...
وبعد ذلك بخمسين سنة تقريبا كان الآباء المؤسسون في عجلة من أمرهم.. فقد منحتهم فرنسا للتو استقلالا مستحقا لبلدهم، وكان عليهم أن يُسابقوا الزمن لإكمال إجراءات الاحتفال بهذا الاستقلال.. وجدوا أن السبيل المعهودة لاختيار النشيد الوطني قد تستغرق أشهرا.. وعليه فقد بحثوا في المدونة الشعرية للبلاد، واختاروا نصا يحقق الحد الأدنى من شروط الأناشيد الوطنية، وكان هذا النص هو تلك النصيحة الأخوية السالفة الذكر..
أرسلوا طائرة إلى تگانت لجلب الفنان القدير سيداتي ولد آب، وخلال ساعات قليلة أكمل تلحينه بمساعدة موسيقار فرنسي..
وقبل فترة تعالت صيحاتٌ تطالب بتغييره، فرفع أحدهم سبّابتَه محذّرا من أن هذه المطالبة انتهاك للدستور يعاقب عليه القانون!
والحق أنه ليس في الدستور تعيينٌ لنص النشيد، بل لقد سُطِّرَ في المادة الثامنة منه: "يحدد القانونُ خَتْمَ الدولة والنشيدَ الوطني".
وعليه، فتُمكن المطالبة بتغيير هذا النشيد؛ كما تمكن المطالبة بتغيير أي مادة قانونية من مدونة ما.. ولو فرضنا أن الدستور نَصَّ على تعيين النشيد؛ فإن المطالبة بتغيير الدستور نفسِه: كلِّه أو جزئِه أو مادةٍ منه؛ أمر سائغ لا إنكار فيه.
* * *
وإذا جَدَّ الْجِدُّ وخرجنا من دائرة القول إلى الفعل؛ فإن القسمة العقلية الحاصِرَةَ تُحيلنا إلى أربع احتمالات -لا خامس لها- بشأن مصير النشيد الحالي:
* تغييرُه كليا، وقد حفظ لنا التاريخ أن بلدانا عديدة غَيَّرَتْ نشيدَها غير مرة، ومنها على سبيل المثال: مصر وليبيا وغيرها، ولن تكون في ذلك جناية على الإسلام قطعا، ولا ارتماء في أحضان الغرب الكافر، ولا خدمة لأجندات مشبوهة، كما لن يكون في هذا التغيير غَضٌّ من قدر صاحب النشيد الأول.. فمتى كان قدره مرهونا باختيار نصيحةٍ له نشيدا وطنيا؟
* تحويرُه تحويرا يُبْقِي على جوهره، ويضيف إليه ما ينقصه من ذكر الوطن وأمجاده وأبطاله ومآثره وأعراقه، وللشاعر الشيخ ولد بلعمش محاولةٌ مشكورة في هذا الصدد، حفظت للأصل جوهرَه وأضافت إليه ما خَلاَ منه من المضامين المطلوبة في الأناشيد الوطنية..
* اعتمادُ نشيدٍ موازٍ له، ولن نكون بِدْعًا في ذلك فإن للأمريكيين إلى جانب نشيدهم الوطني الشهير "الراية المرصعة بالنجوم"؛ نشيدًا آخر هو "بارك الله أمريكا"، وهو لا يقل شعبية عن الأول.. وكثيرا ما تم إنشادهما معا في مختلف المناسبات.
* الإبقاءُ على النشيد الأصلي كما هو، ولا ضير في ذلك -لعمري- فإن نصرةَ الله ورسوله، وحراسة الفضيلة ومدافعة الرذيلة، والدوران مع الحق حيث دار؛ هي أم القيم التي تحتاج إليها كل مُوَاطَنَةٍ صالحة، ولن يُفَنَّدَ قولُ من قال إن المضامينَ الحاليةَ محلُّ اتفاق بين الموريتانيين، وأن الإسلام هو أول رمز للوحدة الوطنية وخيرُ ضامن لها.. فلا يجمع الموريتانيين شيء كما يجمعهم الإسلام.
أحمد سالم ولد باب