أجرى الحوار: أحمد سالم ولد باب
فَهْمُ الظواهر والتحولات الاجتماعية العميقة في موريتانيا ودراستها؛ هي بعض ما يشغلنا في موقع "مراسلون"..
وقد رأينا أن نتوسّل إلى ذلك، من بين عدة خيارات أخرى، بإجراء "حوارات سريعة" مع الفاعلين والأكاديميين والخبراء..
ولمقاربة "الظاهرة اليسارية الجديدة" في موريتانيا، أجرينا هذا الحوار السريع مع الباحث والأكاديمي الموريتاني، المقيم في تركيا، الحاج ولد إبراهيم..
عرفتُ الأستاذ الحاج عن قرب، أيام الدراسة بالمغرب، وأنا أستطيع أن أؤكد لأولئك الذين لم يعرفوه إلا مدونا جريئا لا تخلو تدويناته من حِدّة، أنه شخص أليف، مرح، بشوش.. وخلافا لما قد يظنّه بعضهم فهو لا يَعُضّ!
ولحسن الحظ فهو يفسر، في هذا الحوار القصير، سببَ تلك الحدة ودوافعها، عندما يقول: "صناعة البشاعة والفظائع والموبقات الفكرية والاجتهادية هي الصوت الأكثر صخبا في الحديث باسم الإسلام والمسلمين اليوم، بمشاركةٍ وتواطؤٍ بين جماعات تختلف في المنهج وتشترك في الرؤى والتصورات، وهذا ما يدفع الكثيرين، وأنا من بينهم، للتصدي ومواجهة خطاب النكوص والعنف والكراهية، بما يجلبه الأمر من مخاطر التكفير والشيطنة وخسارة الأصدقاء على أقل تقدير".
في تلك الأيام الجميلة؛ اكتشفت فيه باحثا اجتماعيا دقيقَ الملاحظة، عميقَ التحليل؛ عندما أطلعني على قصاصات كتبها على هامش نشاط تطوعي، جال خلاله في أرجاء إحدى ولايات الشمال..
ما سبب الصعود القوي لظاهرة اليسار في صفوف الشباب هذه الأيام؟
قبل الإجابة على السؤال بكليته؛ أود فتح قوسين للتعليق على كلمتي "الظهور" و"الظاهرة".. طبعا اليسار كطرح فكري أو كتجربة نضالية سياسية ليس بجديد على موريتانيا كما تعرفون، هنا أتحدث عن تجربة "الكادحين" و"النهضة" كرواد لحمل مشعل اليسار في الحيز الموريتاني في السبعينات.
لهذا السبب سيكون من الأدق استخدام عبارة "إعادة ظهور" كتعبير عما أسميه "الحالة اليسارية"، وليس "الظاهرة اليسارية"، لسببين: أولا: بسبب ما تستدعيه الإحالة "الدوركايمية" السوسيولوجية لمصطلح "ظاهرة"، خصوصا كونها تُتداول غالبا للحديث عن الظواهر الاجتماعية او الثقافية السلبية. ثانيا: كون مصطلح "الحالة" أكثر دقة للتعبير عن الطرح الجديد المخالف لأنماط التفكير المعهودة، لكنه غير منتظم في حركة أو حزب ولا ينطلق من منبر إعلامي واحد وهنا أغلق القوسين.
بخصوص تعاظم "الحالة اليسارية" الموريتانية مؤخرا؛ فأرى أنه يعود لأسباب متعددة، تشابكت في ظروف معينة لتنتج هذا الزخم موضوع الحديث. من بين تلك الأسباب حالة الوعي والصدمة الناتجين عن الربيع العربي في نتائجه، التي اختلط فيها الأمل والإحباط بسبب ركوب القوى الغير ثورية أمواجَ الثورات التي اندلعت في البلدان العربية، ووصل صداها لـ"وول ستريت" ومدريد وإسطنبول وحتى هونغ كونغ.
في السياق المحلي تشكل قضايا العدالة الاجتماعية وقضايا الرق، وما يصطلح على تسميته "ماضي الإرث الإنساني" والاستبداد المغلف، إضافة لسيطرة قوى المحافظة على كل مدارك الحياة الاجتماعية والثقافية المحلية؛ أهم دوافع تعاظم الحالة اليسارية الموريتانية، إضافة لدمقرطة ومشاعية وسائل الاتصال، التي أتاحتها الشبكات الاجتماعية.
هل من تفسير لجرأة اليسار وشجاعته في طرح مواضيع لم تطرح من قبل؟
طبعا موضوع جرأة اليسار ليس بالأمر الجديد، والحالة اليسارية الموريتانية التي نتحدث عنها ليست بدعا من هذا الأمر، هي فقط تطرح القضايا المعهودة لليسار بنبرة محلية مثل قضايا العدالة الاجتماعية، وتحرر الشعوب، والإخاء الإنساني، وحرية المرأة، وحرية العقل والتفكير..
لكن أعتقد أنك محق في استدعاء الجرأة والشجاعة عند الحديث عن الحالة الموريتانية، لكونها حالة خاصة، رغم أن أدبيات اليسار لا تحبذ استخدام كلمة "الخصوصية"، لاعتقادها أن التجربة البشرية تجربة واحدة، أو موحدة تفصلها ظروف خاصة أو مختلفة.
المجتمع الموريتاني مجتمع بدوي، طبقي، محافظ.. استورد الكثير من القيم والممارسات القروسطية، مثل الفوارق الطبقية، والاستعباد، وغلفها بثوب المدنية والحداثة، أو التحديث الشكلي، للمحافظة عليها، لذا على كل قوة تسعى لتغيير، أو لِنُقُلْ مواجهةَ، هذا الواقع أن تتسلح بأعلى درجات الجرأة والشجاعة، لأن هذه الأفكار والممارسات الرجعية مترسخة على الصعيد الفكري والاجتماعي، ومتمكنة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
هل يتعارض اليسار والإيمان في نظر هؤلاء؟
جوهريا؛ لا يوجد تعارض بين كون المرء يساريا وكونه مؤمنا. الأمران يدوران في حقلين منفصلين، وبالتالي لا تعارض بينهما لكون اليسار صراع في المادي الدنيوي، والإيمان ملجأ للسامي الماورائي.
بعبارة أخرى؛ هو مقابلة بين العام في مشاعيته والخاص في حميميته. لكني أرى أن هذا الالتباس، إن أحسنا الظن بنوايا أصحابه، ناتج عن فهم سطحي تبسيطي لماهية اليسار، وخصوصا تجارب اليسار الجديد.
وفي كثير من الأحيان تجد أن هذا الالتباس مقصود، بل أصبح صناعة تقف خلفها الإيديولوجيات التي تؤمم الإيمان والدين، وتراهما رأسَ مالٍ أو إقطاع مدر للدخل المادي والجماهيري، ويكلف الاقتراب منه حَزَّ الرؤوس الفعلي، كما يحدث في كثير من البلدان العربية والإسلامية، أو حَزَّ الرؤوس المعنوي باستخدام الفتوى والتكفير كما حدث مؤخرا في حالة المدون محمد الشيخ ولد امخيطير.
في النهاية لا تعارض بين طرح اليسار ومسألة الإيمان.
يبدو أن واقع المسلمين هو أحد أسباب هذا التمرد.. يتجلى ذلك، خصوصا، في تدويناتك؟
في الحقيقة أنا أدون بشكل مرتجل غالبا عن الكثير من القضايا، ومن بينها القضايا المرتبطة بجغرافيا العالم الإسلامي، الذي اعتبر نفسي جزءا منه، وبالتالي مسؤولا عن نقده وانتقاده إن اقتضت الضرورة، وهي فعلا تقتضي.
طبعا كمسلم أنا فخور بالإسهامات التي قدمتها الحضارة الاسلامية للبشرية في شتى المجالات، لكن واقع المسلمين اليوم يشكل قطيعة بل ردة عن تلك المرحلة المشرقة في التاريخ الإسلامي، حيث أصبحت صناعة البشاعة والفظائع والموبقات الفكرية والاجتهادية هي الصوت الأكثر صخبا في الحديث باسم الإسلام والمسلمين اليوم، بمشاركةٍ وتواطؤٍ بين جماعات تختلف في المنهج وتشترك في الرؤى والتصورات، وهذا ما يدفع الكثيرين، وأنا من بينهم، للتصدي ومواجهة خطاب النكوص والعنف والكراهية، بما يجلبه الأمر من مخاطر التكفير والشيطنة وخسارة الأصدقاء على أقل تقدير.
إليك هذه الصورة التي ترتسم في مخيلة البعض عنك: "يساري يجلس لقراءة القرآن عند قبر جدته، ويكتب تدوينات يخرجُه بعضُهم بسببها من الإسلام"..
طبعا هذا تصور تكفيري شائع ومتداول، لدرجة خَلَقَ منه البعض "روسما"؛ يسقط به عن نفسه حرج الجهل أو سوء النية..
لكن دعني أستهل الإجابة على هذا السؤال بهذه القصة:
في الخريف الماضي وجدت نفسي في نقاش متشنج مع أحد الأصدقاء من مناصري "داعش" المتكاثرين في الفضاء الموريتاني. في سياق معين قلت لصديقي هذا: إنني أحمد الله على رقة القلب التي يراها مسبة، بل وسببا في "ذلة وهوان المسلمين" أو كما قال. استشاط صديقي غضبا ليرد أنني لا أستطيع أن أحمد الله لأني لا أعرفه أصلا!
والسبب، حسب وجهة نظره، كوني "يساري وعلماني وملحد" دفعة واحدة، رغم كونه يراني أقوم بالشعائر كشواهد شكلية على الإيمان.
طبعا هذا التشوه، الذي يعتري فهم الكثير ممن يتعاطون هذه المصطلحات، عائد في جزء كبير منه لضحالة الخلفية المعرفية لأصحابها، مما يجعلهم عرضة لإساءة فهم هذه المصطلحات، واستخدامها كمرادفات دون حرج، ولعلهم في ذلك يعملون بمقتضى مقولة تكفيرية لابن عثيمين، حيث يقول: "لا أعرف كلمة ليبرالي أو علماني، ولكن الأولى تكفيرهم من باب الاحتياط"!
هنا أعود لأقول: إن اليساري الذي يقرأ القرآن على قبر جدته قد يكون مداهنا غلبته سلطة المجتمع وانخرط، دون قناعة، في ممارساته الطقوسية.. لكنه قد يكون أكثر صدقا وفهما لماهية كل من اليسار، كرؤية للصراع على الدنيوي الجزئي، والدين كملجأ للسامي الكلي، ويتصرف بانسجام مع هذه القناعة.