في مثل هذا اليوم من سنة 2003 و صلت الي كوالالمبور بالصباح الباكر بعد سفر طويل امتزج فيه الليل والنهار و حصل علي اثره الشك في دخول أوقات الصلاة بعد ان قرات علي متن الطائره التابعة للخطوط الجوية الماليزية كتاب " مورتانيا في مهب الرياح " الصادر لتوه لصاحبه الاستاذ الرييس المختار ولد داداه رحمه الله و فور وصولي الي النزل التقيت صدفة بصاحب المعالي الاستاذ محمد عبسي وزير الشوون الخارجية المغربي حينها و كانت لي به معرفة في اجتماع سابق فبادرني بالتحية معزيا في رحيل الرييس الاول لمورتانيا و معلقا انه كان نزيها في موقفه من قضية الصحراء. .. بالطبع تلقيت التعازي بقلب المومن بقضاء الله و بما يقتضي الواجب الوطني من الثناء علي رمز بارز من رموز الوطن مع لزوم الصمت بخصوص المسالة الخلافية التي اثارها معالي الوزير ..و هكذا علمت بالخبر الحزين بعيدا عن الوطن و بعد جولة شيقة في مذكرات الزعيم الراحل مكنتني من الاطلاع علي روايته الشخصية لرؤيته المتعلقة بمشروعه السياسي العملاق المتجسد في بناء وطن بوزن حلم كبير اسمه مورتانيا !
و قبل ان ابدي خلاصة سريعة علي هذا الكتاب التاسيسي في تاريخ مورتانيا السياسي اود ان أوضح بان قرأتي للكتاب قد لاتخلو ،رغم محاولتي ان تكون موضوعية ، من تحيز واضح نتيجة لميولي السياسية قديما وحديثا .. صحيح انه لا يمكنني القول بجدية بأنني كنت معارضا له لانه رحل عن الحكم و انا حينها اقرب الي المراهقة لكنني شربت في طفولتي من معين مدرسة سياسية عارضته بشدة .. قبل ان التحق فيما بعد بصفوفها و ان أتاثر بادبيتاها المناهضة له .. و لعل انتمائ السابق الي تلك المدرسة التي علمتنا كيف نجرب صلاحية قلم بيك بعبارة بالفرنسية تعني " يسقط داداه " A bas Dadah! التي كان بعضنا. يكتبها. En bas Dadah ! و كيف نوزع " صيحةً المظلوم " . تحت جنح الظلام. . ساهم في تنظير ماخذي علي حكمه و قد سطرت تلك الماخذ ذات مرة في مقال نشرته لاغراض نضالية في مرحلة من مساري السياسي ... و رغم المآخذ التي قد لا يكون المقام مناسبا و لا كافيا لآثارتها والتي قد يشاطرني فيها البعض و يأخذها علي آخرون بقي وسيبقي الرييس المختار ولد داداه رحمه الله في ذاكرة مورتانيا كزعيم سياسي مؤسس لا خلاف في دوره بتاريخ مورتانيا..كدولة
معترف بها دوليا.
وربما يتعين هنا التذكير .. من باب الحشو ...بخصوص الرؤساء السابقين و الحالي و اللاحقين ومن تبعهم بإعجاب الي يوم الدين ... بانهم في نهاية المطاف أشخاص يخطئون في بعض التصرفات و يصيبون في أخري و هم جديرون كغيرهم من منظور إنساني صرف بالاحترام و يتعين علي من لا تعجبه سياسة أحدهم ان يحترم نفسه بانتهاج النقد الموضوعي بدل الميل الي الحقد الشخصي الذي غالبا ما يعكس سطحية صاحبه ..و . يبقي ان يعي الجميع ان انتقاد " رئيس الجمهورية" كرمز لمؤسسة دستورية في سياق مهامه العامة. لا يعني بالضرورة انتهاك حرمة شخصه و ان الاحترام المتبادل شرط أساسي حين يتعلق الأمر بنقاش القضايا الوطنية التي تهم جميع الموريتانيين ... و ..بتاريخ مورتانيا كدولة للجميع .. و مع الأسف يبدو ان العواطف مازالت مهيمنة علي الثقافة. السياسية في هذا البلد ...
و من باب العاطفة تأثرت كغيري من المورتانيين بخبر وفاة الرييس المختار رحمه الله و كان عزائ بتلك الايام في صورة رايعة لموكب جنازة وطنية بامتياز حضرتها الطبقة السياسية بجميع أطيافها المتناحرة حينها علي السلطة و توحد فيها المورتانيون في لحظة للله و للوطن ... و قد كنت. قبل تلك اللحظة المؤثرة بما يناهز السنتين تأثرت بأول لقاء و آخره مع الزعيم الراحل ابان رحلة عودته الي الوطن حيث كنت معه في نفس الطائرة القادمة من باريس و قد سارعت مع بعض االركاب المورتانيين الي تحية السيد الرييس الذي أبدى في ترحبيه بنا تأثرا بالغا و عند وصولنا الي المطار شهادت من الطائرة تلك الجموع التي جاءت لاستقباله فتذكرت صورة الرييس المتواضع الذي شاهدته. ايام زمان ..في صفوف الجماهير.. و هو يسير علي قدميه قادما من قصر الرياسة ليلقي خطاب حالة الأمة امام ممثلي الشعب في البرلمان و مما يعجبني في ذلك المشهد البهيج رغم علمي بان النواب كانوا في مرحلة من تاريخ حكمه السياسي يوقعون علي استقالتهم قبل انتخابهم او علي الأصح قبل تعيينهم. .. هو الشكل الأنيق الذي حافظ عليه الاستاذ المختار بن داداه رحمه الله في مظاهر دولة القانون ...
و بالعودة السريعة الي كتاب " مورتانيا في مهب الرياح " يمكن بالتأكيد القول بانه ..رغم مواقف صاحبه الخلافية في بعض الحالات والتي تمسك بها تمسكا يعكس النزاهة الفكرية التي تحدث عنها معالي الوزير المغربي بن عيسي .. يشكل ..من الزاوية العلمية.. مرجعية لا غني عنها للباحثين و للمهتمين بالشؤون المورتانية و كذلك للأجيال القادمة التي ستجد فيه لا محالة لبنات التاسيس لجمهورية تم تشييدها في متاهات العدم ... و ربما يتعين اشفاع قراءته بغية التعمق في النظرة السياسية للأستاذ المختار ولد داده بمطالعة مذكرات وزيره صاحب المعالي محمد عالي شريف التي صدرت مؤخراً تحت عنوان " نظرات جنوبية " كما تتعين القراءات المناهضة لنظرته كرواية المناضل احمد باب ولد مسكه رحمه الله او كتاب معالي الوزير يحي ولد منكوس من جيل النهضة الوطنية. و كذالك كتابات المعارضين الآخرين كحامد المورتاني للوزير محمد ولد الشيخ رحمه الله او ككتابات وشهادات جيل الكادحين و غيرهم من السياسيين المعارضين الذين خالفوا الرئيس الاول في سياسته .. ومهما كانت طبيعة الخلافات فان الرجل رحمه الله يعتبر في ذهني كغيري من الكثير من المورتانيين وجها مرموقا ذاع صيته دوليا فارتبطت باسمه دولته حتي صارت تعرف به .. و في مقدمات كتابه يتجلي تواضع الانسان المورتاني الاصيل الذي نشأ وترعرع في أوكار و تلقي تربية في منبع الخلق الرفيع والتعفف مما يفسر سعيه الي الابتعاد عن مراكز النفوذ و السلطوية قبل ان تقحمه ..طبقا لشهادته الصادقة .. جماعة من الأعيان .. في مسعي السلطة التي تعينت عليه فكان اهلا لها و كانت اهلا له و قد صادف زمانه عهد عظماء السياسة في العالم فصار منهم و لعل من حسن حظ. و من علامات توفيق دفين البعلاتية الذي وقفت على ضريحه داعيا له بالرحمة والغفران و جنة الرضوان. انه لم يبقي في أذهاننا من رسالة العجوز التي انتقدت معارضته . بها سياسته الا مطلعها الحسن : مختار يا رجل البلاد مختار يا بدر السنين !!!