لا أكاد أكن لشخص من المعاصرين من الاحترام مثل ما أكن للشيخ القرضاوي الذي نذر نفسه مذ هو يافع للدعوة الإسلامية والذود عنها، تلقى في ذلك ما تلقى من السجون والتغريب نرجو الله أن يتقبل منه ذلك، ولكم أنا معجب بمنهجه الصارم في الأصول الميسر في الفروع، ولكم أنا ممتن لما أتحف به المكتبة الإسلامية من تحف ولآلئ نفيسة نادرة في الفقه والفكر، وعمر في الإسلام فازداد ألقا ونورا وظل يأرز إلى الحق كما تأرز الحية إلى جحرها.
وعلى جلالة الشيخ وما له من محاسن، فإنه لم يسلم تماما من سريان نسبة من داء العصر الإسلامي المتمثل في سريان الروح التسويغية التي تجعل العالم والمفكر يتعسفان في التعامل مع بعض النصوص للخروج مما استقر في لاشعوريهما -بسبب ضغط العصر-أنها سوآت لا ينبغي أن توجد في دين الرحمة واليسر والعدل والتحرر، وهو ما أوقع الشيخ في بعض التأويلات المتعسفة على قلتها غير أن بعضها من الحجم الكبير ،كإعلانه موافقة الشيخ أبي زهرة في ما ذهب إليه في مسألة الرجم وهو مذهب أقل ما يمكن أن يوصف به أنه متهافت معارض للأدلة القطعية، وسأتناول تلك الشبهات التي استند إليها الشيخان أبو زهرة و القرضاوي من خلال الوقفات التالية:
الأولى: أن القول بأن الرجم لا يتلاءم مع رحمة هذا الدين شبهة تنتمي إلى فروع المحاجة بالصالح والأصلح وهو مسلك أوقع المعتزلة في مهاوي ومهامه أغضبوا بها النقل ولم يرضوا بها العقل، فهي تتناقض مع مبدأ التسليم لله بالملك وعدالة التصرف في ملكه إذ لو حكمنا العقل المجرد عن الإيمان لتساءلنا عن العدالة في العقاب الأبدي في جهنم على الكفر فترة مؤقتة في الدنيا، ولتساءلنا عن العدالة في معاقبة الإنسان على أمر محكوم عليه به قدرا، فهذه الأسئلة ونحوها يطرحها العقل المجرد من الإيمان، أما العقل المستنير بالإيمان فقد أذعن لله الحالق المتصرف في ملكه بما شاء عدلا موقنا أنه لا يسأل عما يعمل وهم يسألون.
يكفي في دحض عقلانية المعتزلة تلك الطرفة التي تقول إن مجوسيا صحب معتزليا فقال: ما بالك لا تسلم؟ فقال: حتى يشاء الله. قال: قد شاء الله ولكن الشيطان لا يدعك، فقال: أنا مع أقواهما.
فضلا عن ذلك فإن مزية قوة الزجر مزية حميدة في القوانين الزاجرة بحسب الجرم ولا شك أن جريمة الزنا من أشد الجرائم في موازين الإسلام وخاصة زنا المحصن {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} (سورة الإسراء). وليست القسوة حصرا على صورة الرجم فهذه عقوبة المحاربين المنصوصة في كتاب الله نصا قطعيا لا لبس فيه تحمل قسوة مماثلة قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} (سورة المائدة) وهل الجلد أمام الناس والنهي عن الشفقة يخلو من قسوة قال تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)} (سورة النور)
الثانية: أن ما ثبت بالتواتر من فعل النبي في الأحاديث الصحيحة كاف في القطع بثبوته، ولا ضرورة للاستدلال بحديث الداجن ولا بآية الشيخ والشيخة المنسوخة ولا غيرها لعدم حاجة تلك الأحاديث إلى داعم، ولا يقدح في الرجم أن وردت فيه أحاديث ضعيفة أو موضوعة علاوة على تلك الصحيحة فيه، فقد ورد مثل ذلك في كل الأبواب حتى في فضائل القرآن، فهل نبطل فضائل القرآن بالأحاديث التي وضعها نوح ابن أبي مريم؟ او نبطل افضلية الذكر بسبب الأحاديث الموضوعة فيه؟
الثالثة: أنه مما يؤكد صحة مذهب الرجم ضيق المسالك على مناوئيه حتى لم يجدوا من علماء الأمة من الأولين إلى عهد أبي زهرة من ينسب إليه إنكار الرجم إلا بعض المعتزلة والخوارج.
الرابعة: أن محاولة تشويه الرجم بدعوى أنه تشريع يهودي سهو عظيم، فوجود الحكم في الشرائع السابقة دليل صحة لا بطلان، إذ أصل الشرائع واحد إلا ما اختصت به أمة دون أخرى قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} [الشورى: 13].
الخامسة: من المعلوم المتفق عليه أنه يجب الجمع بين النصوص ما أمكن دون أن يضرب بعضها ببعض ولفظ المحصنة مشترك بين الحرة والمتزوجة فحمله العلماء على الحرة في قوله تعالى{ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)} (سورة النساء) وذلك جمعا بين أدلة القرآن وأدلة السنة والجمع بين الأمرين متاح، ولولا هذه الآية لحكموا بالأصل وهو أن حد الإماء بعد الإحصان الرجم، لأن الخطاب للمسلمين يشمل الحر والعبد، فلما نصفت الآية العذاب، صرف إلى ما يتنصف وهو الجلد، ثم أطلق العلماء القاعدة في سائر الحدود فحكموا للعبد ذكرا أو أنثى بنصف حد الحر وتلك من محاسن الإسلام: التخفيف عن الارقاء.
السادسة: إن المتتبع للأحاديث الواردة في الرجم يجزم بأنها متواترة تواترا معنويا لا ينكره إلا جاهل أو مكابر، فما من صاحب جامع أو مسند أو مستخرج أو مصنف لم يورد بعض أحاديث الرجم وقد روي عن جمع من الصحابة منهم عمر وابنه عبد الله وعلي بن أبي طالب وأبو هريرة وخالد ابن زيد الجهني وسمرة بن جندب وجابر بن عبد الله وأبو برزة الأسلمي وأبو بكرة الثقفي وأنس بن مالك وأبو ذر الغفاري وغيرهم، وسنسوق بعض هذه الأحاديث بأسانيدها كما أخرجها مدونوها، فقد قال البخاري: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا سلمة بن كهيل قال سمعت الشعبي يحدث عن علي رضي الله عنه حين رجم المرأة يوم الجمعة وقال قد رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال البخاري كذلك: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس عن عمر قال: "إن الله بعث محمدا صلى الله عليه و سلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها رجم رسول الله صلى الله عليه و سلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف...إلخ" وقال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد حدثنا الشيباني سألت عبد الله بن أبي أوفى عن الرجم فقال : رجم النبي صلى الله عليه و سلم فقلت أقبل النور أم بعده ؟ قال لا أدري. وقال مسلم بن الحجاج: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار جميعا عن عبد الأعلى قال ابن المثنى حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشى عن عبادة بن الصامت قال كان نبى الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أنزل عليه كرب لذلك وتربد له وجهه - قال - فأنزل عليه ذات يوم فلقى كذلك فلما سرى عنه قال « خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب والبكر بالبكر الثيب جلد مائة ثم رجم بالحجارة والبكر جلد مائة ثم نفى سنة ». وقال أيضا: حدثنى هارون بن عبد الله حدثنا حجاج بن محمد قال قال ابن جريج أخبرنى أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول رجم النبى -صلى الله عليه وسلم- رجلا من أسلم ورجلا من اليهود وامرأته. وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح بن عبادة حدثنا ابن جريج بهذا الإسناد مثله. غير أنه قال وامرأة. وقال مسلم: حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبى شيبة قالا حدثنا حاتم - وهو ابن إسماعيل - عن المهاجر بن مسمار عن عامر بن سعد بن أبى وقاص قال كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامى نافع أن أخبرنى بشىء سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال فكتب إلى سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم جمعة عشية رجم الأسلمى يقول « لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ». وقال ابن أبي شيبة: "حدثنا هوذة بن خليفة قال: "حدثنا عوف عن مساور بن عبيد عن أبي برزة قال : رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا منا يقال له: ماعز بن مالك" وقال الإمام أحمد: "حدثنا وكيع قال حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم"، وقال أحمد أيضا: "حدثنا بهز حدثنا همام عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم"، وقال أيضا: حدثنا وكيع حدثنا إسرائيل عن جابر عن ثابت بن سعد أو سعيد عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة فأمرني أن أحفر لها فحفرت لها إلى سرتي، وقال الحاكم: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب أنبأ الربيع بن سليمان ثنا أسد بن موسى ثنا أنس بن عياض عن يحيى بن سعيد حدثني عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قام بعد أن رجم الأسلمي فقال: اجتنبوا هذه القاذورة التي نهي عنها فمن ألم فليستتر بستر الله و ليتب إلى الله فإنه من يبدلنا صفحته نقم عليه كتاب الله تعالى عز و جل. قال الذهبي في التلخيص : على شرط البخاري ومسلم. وقال النسائي في الكبرى: أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي قال ثنا يزيد بن زريع قال ثنا محمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن إبراهيم عن أبي الهيثم بن نصر بن دهر الأسلمي عن أبيه قال كنت فيمن رجمه فلما وجد مس الحجارة جزع جزعا شديدا فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال فهلا تركتموه ..إلخ."، وقال أبو يعلى الموصلي : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي ، عن محمد بن سليم عن نجيح أبي علي عن أنس بن مالك قال : رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر ، وأمرهما سنة". وقال البخاري: حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة" ورواه مسلم كذلك عن عثمان بن أبي شيبة ، عن جرير ، عن الأعمش به. وقال البخاري: "حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال حفظناه من في الزهري قال أخبرني عبيد الله أنه سمع أبا هريرة وزيد بن خالد قالا: كنا عند النبي صلى الله عليه و سلم فقام رجل فقال أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله... وفيه: واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها" ورواه مسلم عن قتيبة بن سعيد ومحمد بن رمح عن الليث عن الزهري به.
أما ابن عباس حبر الأمة رضي الله عنه فذهب أبعد من ذلك حين قال: "من كَفَرَ بالرجم فقد كفر بالرحمن وذلك قول الله : {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تُخْفُون من الكتاب ويعفو عن كثير}" وفي رواية "كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب" أخرجه النسائي في"الكبرى" والطبري في "تفسيره" وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني.
الأستاذ محمدن بن الرباني.