محمد سالم ولد بمب
جاء خطاب فخامة رئيس الجمهورية في 3مايو الجاري من مدينة النعمه ليحسم الموقف حول العديد من النقاط التي ظلت مشار جدل على مدى العقدين المنصرمين من عمر التجربة التعددية في بلادنا وخاصة النقاشات الجارية داخل أوساط الطبقة السياسية منذ سنتين وما ينتظره الشعب من ثمار لتلك النقاشات،وسأستعرض من خلال هذه الأسطر النقاط التي اعتقد أن فخامة الرئيس قد حسم الجدل حولها، مساهمة متواضعة مني في تدشين حوار فكري هادئ حول ما ينبغي أن يترتب عليها على الصعيدين الرسمي والشعبي.
أكد فخامة الرئيس أن الحوار هو الوسيلة الوحيدة الآمنة لتجاوز الخلافات وتطوير الممارسة الديمقراطية والتنموية، وهو لا يزال مفتوحا أمام الجميع دون قيد أو شرط، وكما أن السيد الرئيس الحائز على المشروعية الشعبية والمدعوم من طرف أغلبية برلمانية وشعبية لم يضع قيدا أو محظورات لا يجوز أن تناقش على مائدة الحوار الوطني الشامل،فإنه جدد مطالبة المعارضة بتجنب وضع العراقيل والاشتراطات المسبقة أمام انطلاق الحوار،مبرزا أن مخرجات ونتائج حوار يراد له أن يكون وطنيا شاملا لا يمكن أن تطالب جهة وطنية واحدة بتحقيقها بشكل مسبق،وإلا كنا أمام اشتراطات ومسبقات متعارضة ومغرقة في التفاصيل لأكثر من مائة حزب سياسي وآلاف المنظمات غير الحكومية،الأمر الذي يؤدي إلى حلقة مفرغة تجعل عملية انطلاق الحوار ثالث المستحيلات.
وعيا من السيد الرئيس باستحالة البقاء إلى ما لانهاية داخل نفق الاشتراطات والاشتراطات المضادة،وأخذا بعين الاعتبار لمسار كل الاتصالات واللقاءات الممهدة للحوار الوطني الشامل على مدى السنتين المنصرمتين ، واعتبارا لمسؤولياته الوطنية الجامعة، فقد حسم الأمر و دعى الجميع إلى استشعار الواجب الوطني والتنادي للمشاركة في حوار وطني شامل في أفق زمني لا يتجاوز أربعة أسابيع.
وتمثل هذه الدعوة ضرورة لازمة في الوقت الراهن باعتبار أن السيد الرئيس يتخذ من الحوار المبدأ والمدخل الوحيد لاقتراح رؤيته الإصلاحية والاستفادة من مختلف الرؤى والمشاريع التي يزخر بها نظامنا الديمقراطي التعددي، لذلك يكون من غير الجائز تأجيل عرض ومناقشة الرؤى الإصلاحية الوطنية إلى أجل غير مسمى بانتظار حسم الجدل حول الاشتراطات المسبقة التي قيدت انطلاق الحوار الوطني على مدى السنتين المنصرمتين،كما أن تحديد سقف زمني لانطلاق الحوار الوطني يمثل فرصة للعديد من الأحزاب والقوى الوطنية التي حسمت مواقفها،وأكدت أن لا بديل عن الحوار لمناقشة كل القضايا الخلافية وأن جميع الوطنيين محكوم عليهم بأن يصلوا في نهاية مطاف الحوار إلى تفاهمات تضمن للبلد دوام الأمن والاستقرار،من جهة أخرى تشكل هذه الدعوة مناسبة لمراجعة بعض القوى السياسية لرهاناتها ولإمكاناتها لتحسم بشكل نهائي موقفها بين خيارين ظلا يتصارعان داخل خطابها ومسلكها خلال السنتين المنصرمتين،خيار الحوار مع النظام والأغلبية الداعمة له من أجل الوصول إلى نتائج ومخرجات تعيدها للمشاركة في المؤسسات الديمقراطية نظرا لكون السياسة هي التعامل الإيجابي مع الممكن،وأخذا بعين الاعتبار لعبثية تكرار التجربة الفاشلة لمحاولة إسقاط النظام،حين حاولت جر البلد إلى ما عرف سنة 2011 بالربيع العربي والذي استحال اليوم إلى جحيم ومحرقة دمرت الدول وفجرت الحروب الطائفية والمذهبية بين الشعوب العربية،ليستحيل مصيرها إلى لعبة تتقاذفها القوى الدولية،أما الخيار الثاني،فيصر القائلون به داخل هذه القوى السياسية على ضرورة العودة إلى الشارع والدعوة إلى رحيل النظام باعتبار أن مسارا آمنا، سلميا ومتشاورا عليه مع النظام الحالي لا يمكن هذه القوى من الوصول إلى كامل طموحاتها السياسية المستقبلية،وكلنا أمل أن تتغلب روح الواقعية والوطنية والحكمة الشعبية الثمينة القائلة<بأن النصف مع الاستقرار والعافية كاف وأكثر> داخل هذه القوى السياسية على نزعات المغامرة والدعوة إلى العنف الأعمى والرغبات الطفولية المبنية على مبدإ الكل أولا شيء،لتلتحق بالمشهد الوطني فتلبي الدعوة المفتوحة للحوار الموجهة من طرف رئيس الجمهورية من أجل أن تدافع أمام الجميع عن رؤاها وتصوراتها وتساهم مع الآخرين في رسم صورة موريتانيا المستقبل.
وإذا كان البعض ظل يمتنع عن دخول الحوار ويحاجج بغموض القضايا التي سيطرحها الرئيس،ويتساءل ما هي مقترحات النظام التي سيقدم على مائدة الحوار الشامل الذي دأب على تكرار الدعوة إليه في كل المناسبات؟،فقد جاء خطاب النعمه ليحسم هذه المسألة حسما لم تعد تجدي معه فنون قراءة الكف وتأويل الخطابات المبتورة من سياقها لاستطلاع النوايا البعيدة لتحديد موقف منها،فمقترح الرئيس المقدم للحوار واضح ومحدد:مراجعة دستورية بمقتضاها يلغى مجلس الشيوخ وتستحدث مجالس جهوية للتنمية،وحتى لا يتسرع البعض ليسأل مثل ماذا أيضا،أجاب السيد الرئيس على هذا السؤال الافتراضي قائلا<هذا هو مقترحنا> يعني إلغاء مجلس الشيوخ واستحداث المجالس الجهوية للتنمية في نطاق حديثه عن تعديل الدستور.
ويستجيب مقترح حل وإلغاء مجلس الشيوخ، من جهة لرغبة شعبية بتقليص المؤسسات الدستورية الزائدة على الحاجة وتوحيد الجهاز التشريعي،وهي رغبة تكاد تشكل إجماعا للأحزاب السياسية بمختلف أطيافها ومواقعها،،كما أنه يمثل اقتصادا هاما للموارد العمومية،من جهة ثانية.
أما مقترح استحداث مجالس جهوية للتنمية فينبع من ثقة عالية بمستوى نضج الشعب الموريتاني وقدرته على الجمع والمواءمة بين مؤسسة الديمقراطية التمثيلية النيابية المتمثلة في الجمعية الوطنية وآخر نماذج الديمقراطية التشاركية،أعني المجالس الجهوية للتنمية التي ينبغي أن تكون الحقل الأول لنقاش أولويات وخيارات التنمية على الصعيد الجهوي،على أن تتخذ الحكومة من حصيلة تلك النقاشات المادة الأولى لصياغة الرؤية التنموية الوطنية التي ستعمل على تجسيدها في مشاريع قوانين تعرض على البرلمان لمناقشتها وإجازتها،وبهذه الصيغة يتكامل التشخيص الجهوي لمشكلات التنمية ورغبات وانتظارات السكان،من جهة مع الرؤية التنموية الوطنية لدى الحكومة المبنية على الأهداف العامة للنمو المنشود و تقدير للموارد المالية المتاحة،من جهة ثانية.
وحتى يطمئن الجميع إلى دور فخامة رئيس الجمهورية لتجسيد هذا النهج الإصلاحي الجديد،فقد أكد بكلمة جامعة<أنه لن يكون عقبة في وجه ترسيخ الديمقراطية السليمة>،ولمن يضرب صفحا عن الأقوال والتعهدات ويدمن محاكمة النوايا،أذكره بالمواقف التالية لفخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز،ففي سنة 2009 استجاب لاتفاقية دكار مع المعارضة واستقال من الرئاسة ليعود مرشحا لنيل ثقة الشعب مع بقية المرشحين،وخلال حوار 2011 بين الأغلبية وكتلة المعاهدة المعارضة تدخل فخامة الرئيس ليطلب من وفد الأغلبية الاستجابة لجل المطالب والإصلاحات المقترحة من طرف المعاهدة،وعملت الحكومة والأغلبية على صياغة وإجازة كل القوانين المجسدة لتلك الإصلاحات.
إن نخبة الشعب الموريتاني مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى للتعبير عن رأيها بوضوح، هل تحبذ الحوار الوطني الحر المفتوح الذي دعى إليه فخامة رئيس الجمهورية،حيث لا يجوز لأحد أن يضع شرطا للدخول فيه،ولا لآخر أن يصادر رأيا داخله،ليقدم بلدنا نموذجا حضاريا ديمقراطيا لتجاوز الخلافات الشكلية،أم أن هذه النخبة ستسكت متواطئة بذلك مع دعاة إشعال الفتنة والتحريض على السلطة الشرعية القائمة والدعوة إلى الخروج عليها لإدخال البلد لا قدر الله في نفق الهاوية.
اللهم أرشدنا جميعا إلى ما فيه خير وطننا وأمتنا وجنبنا الحروب والقلاقل.
الأستاذ/محمد سالم ولد بمب