حين ينص الدستور وكل قوانين الجمهورية المطبقة له على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلد،وبتعزز كل ذلك بإرادة سياسية قوية على أعلى مستوى في الدولة،فكيف يعرض البعض الوثائق الرسمية الصادرة عنه للدعوى بالبطلان عندما يستظهر بنسخة فرنسية للوثيقة الرسمية،التي لا يمكن أن تكون إلا عربية بقوة القانون؟
إن المجادلة بأن الفرنسية هي الوحيدة المتاحة داخل الإدارة،وأن من أراد أن يضمن <مصالحه> عليه أن يتكيف مع<التفرنس> مكرها دعوى باطلة،مصدرها سلطة العادة والخوف المرضي من المبادرة،ذلك أن جميع الخطابات الرسمية تلقى باللغة العربية ومن لا يجيدها يضطر لتكليف من يلقي الخطاب نيابة عنه،وقد حضرت شخصيا اجتماعا لأحد الوزراء رفض خلاله أن يترجم خطابه إلى الفرنسية وطالب أن يترجم إلى إحدى اللغات الوطنية التي هي لغة الأم لبعض من حضر الاجتماع ممن لا يجيد فهم اللغة العربية،فهل يمكن أن نتصور أن مثل هذا السلوك يتعارض والإرادة الرسمية للدولة؟،ثم هل توجد في الدولة قطاعات أكثر رسمية وسيادية من العدل والجيش الوطني و هي قطاعات لا تستخدم في مراسلاتها ووثائقها الرسمية سوى العربية؟،وفي وزارة المالية أصبح كشف الراتب يصدر باللغتين العربية والفرنسية وكذلك جميع أنواع المخالصات،ولم تسقط السماء على الأرض كما يقال بل جاء الأمر سلسا سائغا وملبيا لحاجات ورغبات من ظلوا لعقود يقبضون ما لا يفهمون ويسددون ما لا يعرفون.
من هنا نفهم أن تعريب الوثائق الإدارية لا تعدو كونها مسألة مبادرة وعمل فني يقوم به المسؤول الأول لإدارة ما لينسجم مع القانون أولا وليحقق شرط التواصل مع المستفيدين من خدمات الإدارة والمعنيين بالقرارات الصادرة عنها ثانيا،ذلك أن أي مواطن تضرر من قرار إداري محرر بلغة غير العربية يمكن أن يدفع ببطلانه أمام المحاكم،مهما كانت وجاهة مضمون ذلك القرار،والمحاكم ملزمة قانونا بإبطاله.
إن القرار الأخير الذي اتخذته الوزيرة الأمينة العامة للحكومة السيدة زينب بنت أعل سالم بتعريب مأموريات السفر إنما يتنزل ضمن الفهم الصحيح لواجبها وللإطار القانوني الناظم للعمل الحكومي داخل الجمهورية الإسلامية الموريتانية وللإرادة السياسية لقيادة البلد،ولأنها انتبهت لذلك وفهمته تستحق الشكر والتنويه من كافة الوطنيين المخلصين.
وإذا كانت السيدة الوزيرة قد منحتنا مأموريات سفر باللغة العربية لغة القرآن الجامعة لكل مكوناتنا العرقية فمن واجبنا أن نطالب بمنحها مأمورية إقامة في منصبها الحالي،من أجل أن تتابع عملها الرائد مع كافة الدوائر الإدارية المرتبطة مباشرة بقطاعها لتقنع المترددين من المسؤولين عنها بأن تعريب الوثائق الصادرة عنهم ضرورة قانونية لا يتطلب إنجازها جهدا خارقا وإنما جرعة بسيطة من الإرادة والعمل الفني المتقن، وأن جهدهم في هذا المجال سيجعل المرافق التي يسيرون أقرب للمواطنين والمتعاملين،باعتبار أن ذلك هو الهدف الأساسي المرسوم لكل الإدارات العمومية،وليس للوزيرة وهي تسير على هذا النهج أن تلتفت لعويل المثبطين، فما تقوم به هو الأصل والقاعدة وغيره استثناءات لا يقاس عليها.
وإن استطاعت السيدة الوزيرة أن تستكمل مثل هذه المهمة الوطنية النبيلة فلها عندئذ أن تطمح إلى ما هو أرفع من مهمتها الحالية فهي تستحق ذلك وأكثر.
لا يعني ما سبق أن الإدارة يجب أن تنغلق عن مخاطبة ومكاتبة الشركاء الأجانب باللغة الأجنبية التي يفهمون، بل على العكس فتلك المخاطبة والمكاتبة المباشرة تمثل ضرورة للانفتاح على العالم،وفي هذا السبيل ينبغي تعزيز مصالح الترجمة داخل الدوائر الرسمية بمختصين في أكثر اللغات استخداما عبر العالم مثل الإنجليزية والإسبانية وغيرها علاوة على الفرنسية التي تبقى أداة للتفاهم مع الدول الفرانكفونية غير أنها لا تكفى لضمان التواصل المباشر مع الدول والشعوب الأخرى التي نرتبط معها بأوثق العلاقات التجارية والاقتصادية والثقافية،حيث أن مخاطبة هذه الشعوب بلغتها الأم هو المدخل الأول والتأشرة المباشرة لنيل رضاها وبالتالي ضمان تحقيق مصالحنا المشتركة معها.
الأستاذ/محمد سالم ولد بمب