هوامش على فتاوى نازلة الذهب
الباحث/ محمد سالم بن دودو رئيس قسم الدراسات التخصصية بمركز تكوين العلماء ونائب الأمين العام لمنتدى العلماء والأئمة بموريتانيا
ليس غريبا أن تضطرب الفتاوى الفقهية في أي نازلة تفرض نفسها بشكل مباغت على النظار، مما قد يربك المفتين في الوقوف على حقيقها أصالة وفي التوفيق لحكمها تبعا.. ولا شك أن نازلة الذهب المستخرج شعبيا في بلدنا قد أخذت بحظها من ذلك.
وقد استوقفني تواطؤ العديد من الفتاوى الصادرة بهذا الخصوص على الجزم بأن الواجب في هذه المستخرجات هو ربع العشر، وفق ما للزكاة من شروط وتفصيلات، فاستدعى ذلك مني المساهمة في إنارة الرأي العام بتسجيل صوتي مختصر ضمنته تنبيها إلى أن هذه النازلة تندرج في خصوص النَّدْرة لا في عموم المعدن.
وقد تعضدت تلك الفتاوى المشار إليها بأخريات من بينها اثنتان على الأقل من العيار الثقيل أولاهما للعلامة أحمدو ولد لمرابط ولد حبيب الرحمن إمام الجامع المركزي بالعاصمة، والأخرى للعلامة محمد المختار ولد امبالة رئيس المجلس الأعلى للفتاوى والمظالم، وكلاهما قد ضم إلى علمه الجم ورعا بالغا وصدعا بالحق ظاهرا.
وعلى أثر ذلك وردت إلي تساؤلات عديدة من طلبة علم وإعلاميين ومنقِّبين ميدانيين تلح كلها على ضرورة رفع اللبس الجالب لهذا التناقض الصارخ بين ما زعمتُه وما تواطأت عليه فتاوى سائر فقهاء البلد المشهورين حول النازلة. فكان لزاما علي أن أعيد الكرة للحديث عن الموضوع موجها خطابي هذه المرة لأخوي العزيزين العلامتين الجليلين خصوصا، ولمن وافقهما الرأي عموما.
ولا جدال في أن ما تضمنته تلك الفتاوى من أحكام وتفصيلات تتعلق بالمعدن مسلمة لا مطعن فيها ولا اعتراض عليها، وإنما الخلاف في تحقيق المناط وفق المعطيات الواقعية للنازلة موضع النظر، وما يتعلق بها من حقائق قطعية أجزم بأنها لو وصلت العلامتين لما تريبا في اعتبار النازلة من قبيل "ندرة العين" خصوصا، لا من قبيل المعدن عموما. وذلك بناء على ثلاثة أمور يحصل بمجموعها الجزم إن لم يحصل بإحداها:
أولها- أن الْقِطَعَ المستخرجة في بلادنا اليوم تنطبق عليها مواصفات "نَدْرة العين" المنصوصة في كتب المالكية متونا وشروحا فهي قطع من الذهب الخالص لا تبلغ الشوائب الترابية العالقة بها نسبة 3% كما صرح به غير واحد من المختصين في سوق الذهب بالعاصمة؛
وثانيها- قرينة السعر المدفوع فيها من قبل تجارها العارفين حيث يتراوح سعر الكيلوغرام من هذه المادة بالحالة التي استخرجت بها من الأرض (قبل أي معالجة) بين 10.500.000 أوقية و12.500.000 أوقية، ولا يتعلق هذا التفاوت في الأسعار بنسبة الشوائب الترابية، وإنما يتعلق بنسبة نقاوة الذهب ذاته من الشوائب المعدنية الأخرى التي يصنف بحسبها إلى عيارات متفاوتة الجودة أعلاها عيار 24 الذي تبلغ نقاوته 1000 في الألف، وأوسطها عيار 21 الذي يبلغ نقاؤه 825 في الألف، وأدناها عيار 18 الذي لا يتجاوز نقاؤه من الشوائب المعدنية (لا الترابية) نسبة 750 في الألف؛
وثالثها-أن الأجهزة المستخدمة في الكشف معدة خصيصا للإرشاد إلى الذهب الخالص لا إلى التراب أو الصخور المشبعة به. وقد نص فقهاؤنا على أنه لا فرق في ندرة العين بين "القطعة الكبيرة الخالصة والقطع الصغار الخالصة المبثوثة في التراب"، بل ألحقوا بها "التراب الكثير الذهب السهل التصفية"، كما يتضح من نصوصهم التالية التي تبين أن ما كانت هذه حاله ففيه الخمس لا ربع العشر على المشهور الراجح في المذهب:
أولا- قول عليش ممزوجا بخليل: ((وفي ندرته) أي: معدن العين بفتح النون وسكون المهملة أي: قطعة ذهب أو فضة خالصة لا تحتاج لتصفية قاله عياض. وقال أبو عمران تراب كثير الذهب سهل التصفية. ولا مخالفة بينهما، إذ المراد ما نيل من المعدن غير محتاج لكبير عمل فشمل القطعة الكبيرة الخالصة والقطع الصغار الخالصة المبثوثة في التراب والتراب الكثير الذهب السهل التصفية (الخمس) أي: خمسها سواء وجدها حر أو رقيق مسلم أو كافر بلغت نصابا أم لا، هذا مذهب ابن القاسم. وقال ابن نافع: فيها الزكاة ربع العشر لاختصاص الخمس بالركاز والندرة معدن لا ركاز؛ لأنه دِفن آدمي. وقال ابن القاسم: الندرة ركاز؛ لأنه ما وجد في بطن الأرض غير محتاج لتخليص سواء دفن فيها أو خلق.
ثانيا- قول الدردير في الشرح الكبير: (وتخمس ندرة العين) بفتح النون وسكون الدال المهملة: القطعة من الذهب أو الفضة الخالصة أي التي لا تحتاج إلى تخليص، أي يخرج منهما الخمس ولو دون نصاب.
ثالثا- قول الخرشي: وَفِي نَدْرَتِهِ الْخُمُس؛ النَّدْرَةُ الْقِطْعَةُ الْخَالِصَةُ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إلَى تَخْلِيصٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّ نَدْرَةَ مَعْدِنِ الْعَيْنِ تُخَمَّسُ عَلَى الْمَشْهُورِ سَوَاءٌ وَجَدَهَا حُرٌّ، أَوْ عَبْدٌ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ بَلَغَتْ نِصَابًا أَمْ لَا كَالرِّكَازِ.
رابعا- قول الآبي الأزهري في الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني: "وفيما يخرج من المعدن" بفتح الميم وكسر الدال من عدن بفتح الدال في الماضي وكسرها في المستقبل عُدُونا إذا أقام ومنه جنة عدن أي إقامة "من ذهب أو فضة" بيان لما يخرج "الزكاة" ظاهره ولو كان ندرة بفتح النون وسكون المهملة وهو ما يوجد من ذهب أو فضة بغير عمل أو عمل يسير والمشهور أن فيها الخمس.
وفي ختام هذه الهوامش نستخلص ثلاث نقاط هامة:
١- أن الذهب المستخرج يدويا ببلادنا يندرج في ما يسميه فقهاء المالكية وغيرهم "ندرة العين" إذ لا تبلغ الشوائب الترابية فيه نسبة 3%.
٢- أن القول المعتمد المشهور في المذهب المالكي أن الندرة فيها الخمس كالركاز كما نص عليه الشيخ خليل بقوله: وفي ندرته الخمس كالركاز.
٣- بناء على هاتين الحقيقتين الواضحتين فإن التمادي في مقتضى الفتاوى المذكورة بعد الاطلاع على حالة الذهب المستخرج شعبيا بالبلاد يؤدي إلى هدر سبعة أثمان من حقوق الفقراء في هذه الثروة العمومية حيث تخفضها من نسبة الخمس (20%) إلى نسبة نصف العشر (2,5%)، فضلا عن تلويثها لكسب ملاكه جراء عدم تطهيره من كامل حقوق الغير فيه.