أجرى المقابلة لمراسلون : الزميل الأستاذ أحمد سالم ولد باب
قبل أسابيع قليلة التأمت في بروكسل ندوةٌ دولية؛ دعت إليها جامعة "لوفان" Louvain، جمعت «باحثين ومفكرين وقادة دينيين من مختلف أصقاع العالم ومن مختلف الديانات، جاؤوا جميعا للتباحث في قضية تشغل اليوم حيّزا واسعا من اهتمامات الناس والمجتمعات والحكومات، وهي مكافحة التطرف والإرهاب».
وكان من أهم أهداف الندوة «جمعُ ممثلي الأديان في مكان واحد؛ لكي يعلنوا معا عن رفضهم للعنف والإرهاب، أيا كان مصدره، وليؤكدوا أن الأديانَ جميعها تنبذ التطرف، وتحترم حق الإنسان في أن يحيا حياة كريمة وأن يتمتع بالحرية».
الشيخ الجليل الخليل النحوي شارك في هذه الندوة، وَأَسْمَعَ الصوتَ الوحيدَ الذي مَثَّلَ موريتانيا هناك..
"مراسلون" التقته ليحدثها عن المؤتمر، وعن مشاركته فيه، فكان هذا الحوار:
مراسلون: شاركتم قبل أسابيع في مؤتمر حول التطرف والإرهاب دعت إليه جامعة "لوفان" البلجيكية، هل تتكرمون بالحديث عنه، وعن طبيعة المشاركين فيه..
الخليل النحوي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله، وعلى آله ومن والاه.. فِعْلاً شاركت في هذا المؤتمر الذي انعقد في الخامس عشر أو السادس عشر من شهر مارس، وكان مؤتمرا حضرته حسبما علمنا من المنظمين وفود من أكثر من خمسين دولة..
طبعا كان هناك جمهور من بلاد الغرب، ولكن معظم الحاضرين جاؤوا من أقطار إسلامية، وكانوا أساتذة.. علماء.. باحثين.. دعاة.. ولفيف من المهتمين بالهم التربوي والثقافي والدعوي والعلمي في البلدان الإسلامية مع عدد من الخبراء المهتمين بشؤون العالم الإسلامي.. بعضهم لم يكن مسلما حضروا للمشاركة في هذا النقاش.. كان مؤتمرا حاشدا، وانتظم في شكل جلسات عامة علنية، وفي شكل حلقات نقاش ومدارسة أو ما يسمى بالورشات حول بعض الموضوعات المتخصصة التي أُدرجت في جدول الأعمال.. كان مؤتمرا مهما بالمقاييس التقليدية لتقييم المؤتمرات..
تغيير الصورة النمطية الظالمة عن الإسلام كانت من أهداف المؤتمر..
مراسلون: من الجهة المنظمة؟ وما أهداف المؤتمر؟
الخليل النحوي: المؤتمر دعت إليه جامعة لوفان البلجيكية.. ومما يميز هذه الجامعة أن بها كرسيا يحمل اسم الأستاذ فتح الله كولن، ويبدو أنه كرسي يهتم بدراسة الإسلام من وجهة نظر وسطية، تبرز وسطيته واعتداله.. هذه الجامعة هي التي دعت إلى هذا المؤتمر..
أما من ناحية الأهداف، فواضح أن هناك إحساسا بأن الغرب ترسخت لديه صورة نمطية عن الإسلام، تربط ربطا شبه تلقائي بينه وبين ظواهر العنف أو ما يسمى اليوم بالإرهاب، فحيثما وُجد مسلم يكاد يكون متهما إلى أن تثبت براءته، وحيثما وقع عمل من أعمال العنف تمتد أصابع الاتهام في المقام الأول نحو المسلمين إن وجدوا.. هذه الصورة النمطية الخاطئة الظالمة من المؤكد أنها كانت سببا أساسيا من أسباب الدعوة لمثل هذا المؤتمر، الذي أُريدَ له أن ينعقد على أرض أوروبية لعله يكون أقرب إلى الميدان، ولعل أصداءَه تنتقل وتصل إلى أولئك الذين اغْتَذَوْا بمثل هذه الصورة النمطية على مدى السنين وربما عقود من الزمن.
وكان من الواضح أن من أهداف المؤتمر - حتى وإن لم تعلن بشكل صريح - أن يقول بشكل واضح وصريح: ليس الإسلام كما تعتقدون.. ليس الإسلام دينَ عنف ولا دين إرهاب.. - وإن كان لدي شخصيا تحفظ على استخدام مصطلح "الإرهاب" - لكن ليس دين إرهاب بالصورة التي تتصورون.. الإسلام غير ذلك.. الإرهاب الذي تتحدثون عنه لا دين له.. يوجد في جميع الديانات.. في جميع الملل والنحل.. في جميع المجتمعات..
والغرب بالذات شهد من ظواهر العنف والبطش والغلو والتطرف داخله ما لا يكاد يوجد له مثيل، ومارس الغرب نفسه خارج دياره من أعمال العنف والبطش ما لا يكاد يوجد نظير له..
لم تكن هذه الرسالة واضحة وصريحة فيما استمعت إليه من أعمال المؤتمر، لكن أعتقد أنها - حيث لم تكن منطوقة - كانت من المسكوت عنه والمعبر عنه بعبارات أخرى تليق بمنطق الحوار.. كانت هنالك - بكل تأكيد - إرادة لتمرير رسالة مغايرة لهذه الدعوى الباطلة؛ التي تربط الإسلام بكل عنف يشهده الغرب أو تشهده مشارق الأرض ومغاربها اليوم..
مراسلون: ما تقييمكم الشخصي للمؤتمر؟
ما يتعلق بمؤشرات التقييم.. هناك مؤشرات عديدة، بعضها لا أملك عنه الشيء الكثير.. أعتقد أن من المؤشرات التي تساعد على تقييم أي عمل من هذا النوع هي حجم الحضور وانتظامه.. المؤتمر كان حاشدا، ومن الواضح جدا أنه شهد حضورا نوعيا مميزا، يبدو ذلك جليا في مستوى المحاضرات والعروض والمناقشات التي دارت فيه...
مراسلون: المحاضرات والعروض كانت باللغتين العربية والفرنسية؟
الخليل النحوي: لا، كانت بلغات شتى.. هذا أيضا كان من أمارات تميزه، أنه كان مؤتمرا متعدد اللغات، وفرت فيه الترجمة الفورية، والمترجمون يجتهدون في نقل معاني المحاضرات - أيا كان اللسان الذي يتحدث به المحاضر والمناقش - بلغات أساسية، طبعا كانت هناك اللغة العربية والفرنسية والإنجليزية.. هذه أهم اللغات التي كان المؤتمر يعمل بها، وكان الحضور المنتظم والكثيف لأعمال المؤتمر مؤشرا أساسيا من مؤشرات نجاحه..
هل وصلت الرسالة؟ هذه قضية إعلام.. ولا أملك شخصيا مؤشرات تسمح لي بتقييم مدى بلوغ الهدف.. لكن المؤشرات التي يمكن للإنسان أن يلتقطها من داخل القاعات: في نوعية الحضور، وفي كثافته، وفي انتظامه.. رغم الجلسات الطويلة المسترسلة، التي لا تكاد تترك متنفسا للمشاركين.. كل هذه بدت لي مؤشرات تدل على أن المؤتمر كان ناجحا بهذه المقاييس.
مراسلون: ما موضوع مشاركتكم؟
الخليل النحوي: تحدثت في المؤتمر عن مسألة السلام والإسلام.. المؤتمر كان موضوعه: "الإسلام: الموقف من العنف، وأبعاد المجاهدة، ومسؤوليات المسلمين"..
اخترت أن أتحدث عن السلام والإسلام.. عن هذه العلاقة التي أعتبرها علاقة عضوية بين هذين المصطلحين: من ناحية المبنى؛ لأن السلام والإسلام ينتميان إلى نفس الجذر اللغوي.. نفس العائلة اللغوية.. مادة (س ل م) في اللغة العربية هي التي نَسَلَ منها هذان المصطلحان: السلام والإسلام..
ولهذا دلالته في سائر اللغات، وله دلالةٌ أخص في اللسان العربي المبين.. لأنه لسان اشتقاقي، ومجرد أن تكون هنالك هذه العلاقة بين المفردتين، وأنهما تنتميان إلى نفس الجذر اللغوي.. هذا في حد ذاته دليلٌ على اقتران عضوي عميق بين السلام والإسلام..
هذا من ناحية المبنى.. لكننا أيضا نظرنا من ناحية المعنى، ووضحنا أن هنالك ما يؤكد هذه العلاقة في المعاني التي يشير إليها المصطلحان..
السلام مفهوم أصيل في ثقافتنا..
مما يغيب عن أذهان الناس كثيرا أن الإسلام من بين كل الديانات، واللغة العربية من بين كل اللغات، جعلا السلام شعارا أساسيا.. حين يسلم المسلم على أخيه وعلى أي كان.. حين يحييه إنما يحييه بالسلام: (السلام عليكم).. بينما التحية في لغات أخرى وفي ملل أخرى غير مقترنة بهذا المفهوم.
"السلام عليكم" مفهومها في ثقافتنا هو أنني أخبرك أنني سِلْمٌ لك، وأنني أدعو لك أيضا بالسلامة.. أدعو الله لك بالسلامة من غيري، أما أنا فأضمن لك السلامة من نفسي.. هذه هي فلسفة السلام.. أردنا أن نبسطها..
في اللغات الأخرى.. التحية - في أحسن الأحوال - تكون بأن يتمنى الشخص لشخص آخر يوما طيبا.. Bonjour.. وأحيانا تكون Bonne nuit أتمنى لك ليلة طيبة.. في اللغة الإنكليزية Good morning أتمنى لك صباحا طيبا.. Good afternoon بعد الظهيرة.. Good evening أتمنى لك مساء طيبا.. Good night أتمنى لك ليلة طيبة.. هذه تحيات بالتقسيط.. نفس الشيء نجده في اللغة الألمانية أيضا.. ففي هذه الثقافات الأخرى قصارى التحية أن أتمنى لك وقتا محدودا قصيرا من السلامة، بينما في ثقافتنا أتمنى لك السلامة كلها، وأحييك بالسلامة كلها، وأخبرك شخصيا أنني سِلْمٌ لك..
هذه بعض المعاني التي دندنا حولها فيما يتعلق بالعلاقة بين السلام والإسلام.. طبعا أشرنا إلى جوانب أخرى كثيرة، منها أن الله سبحانه وتعالى سمى نفسه "السلام"، وسمى نفسه "المؤمن".. السِّلم والأمان من أسماء الله الحسنى، واشتق لنبيه أيضا أسماء تؤكد هذه المعاني؛ فهو الأمين وهو المأمون، وهنالك معاني لصيقة بها.. معاني الرأفة والرحمة.. "رؤوف رحيم"..
الإسلام دين السلام، لكنه دين العزة أيضا..
ذكرنا بأن "الإسلام" بالتعريف إذا قُدم تقديما موجزا.. من التعريفات البليغة التي جاءت بها جوامع الكلم، التي نطق بها النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم عُرِّفَ بأنه دين السلام.. "المسلم من سلم المسلمون...".. هذا في صيغة من صيغ الحديث.. لكن في صيغة أخرى: "المسلم من سلم الناس من لسانه ويده".. "المؤمن من أَمِنَهُ الناس على أموالهم ودمائهم وأعراضهم" أو كما قال عليه الصلاة والسلام.. فهنا نجد الاقتران الوثيق بين الإسلام والسلام..
بطبيعة الحال الشواهد على هذا كثيرة، وحاولنا أن نسبح فيها وأن نقدم منها نماذج عديدة، لكن أيضا نبهنا إلى أمر بالغ الأهمية.. صحيح أننا نقول - ونقولها صدقا - أن الإسلام دين السلام، لكن ليس معنى ذلك أن الأمر على إطلاقه.. الإسلام أيضا دين العزة.. (ولله العزة ولرسوله وللمومنين).. (فإن العزة لله جميعا).. الإسلام دين الكرامة.. الإسلام دين القوة.. "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير".. هذه المعاني لا بد أن تتكامل، وإلا تحول المفهوم الصحيح الذي لا مراء فيه.. الذي يقوم على اعتبار الإسلام دين سلام.. تحول إلى استكانة.. الله سبحانه وتعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السَّلم كافة).. المفسرون - وقد نبهنا إلى ذلك - يفسرون "السَّلم" في هذه الآية بالمعنيين: أن المقصود به السلام، وأن المقصود به الإسلام.. وفي هذا ما فيه من الدلالة على الاقتران بين الأمرين..
لكن أنا أقف خاصة عند قوله تعالى: "كافة".. وكأنه سبحانه وتعالى ينبهنا إلى أن السلام.. إذا أردنا السلام من الآية، ووقفنا عند هذا المدلول من مدلوليها أو من مدلولاتها.. أن السلام لا يصنعه طرف واحد.. صحيح أن أي طرف يمكن أن يقرر وحده الحرب.. يعلن الحرب على غيره.. كل فرد.. كل مراهق.. كل طفل يمكن أن يطلق شرارة.. لكن أن توقف الحرب وتصنع السلام لا بد من اتفاق الأطراف على ذلك..
العنف في الإسلام حالة طارئة
فليس معنى أن يكون الإسلام دين سلام أن يستسلم المسلمون ويخنعوا ويستكينوا.. لا.. على الآخرين أن يجنحوا إلى السلم، والله سبحانه وتعالى يقول: (فإن جنحوا للسلم فاجنح لها).. فهذه من المفاهيم الأساسية المؤطرة لهذه المسألة، التي تغيب أيضا عن الأذهان.. الإسلام دين سلام.. الإسلام ليس دين عنف.. العنف حالة عارضة، وقد بينا ذلك أيضا في الإشارة إلى ما يعرف بآيات السيف، وهي آيات محدودة معدودة في القرآن الكريم، لعل أولها نزولا قوله تعالى: (أذن للذين يقاتِلون) وفي قراءة: (يقاتَلون بأنهم ظلموا).. الله سبحانه وتعالى يوضح لنا العلة في الإذن بالقتال، كأنه أمر استثنائي لا بد من بيان أسبابه.. لماذا خُرِج عن الأصل الذي هو السلم والمسالمة، وأُذن في بعض الحالات بنقيضه وهو القتال والمقاتلة؟ السبب واضح: أما "يقاتَلون" فصيغة الفعل نفسها مؤذنة بالسبب، لأنهم إنما قاتلوا لأنهم قوتلوا، وأما "يقاتِلون" و"يقاتَلون" معا؛ فإن سياق الآية في بقيتها مؤذن بالسبب، لأن الله تعالى يقول - والأمر هو هو بالنسبة للقراءتين - (أذن للذين يقاتَلون) أو (يقاتِلون بأنهم ظلموا).. هذه الباء تعليلية.. (ظلموا) عليهم أن يدافعوا عن أنفسهم، ولكن الله سبحانه وتعالى يحدد لهم حدودا لهذا الدفاع.. (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم).. (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا).. حتى وأنتم تقاتلونهم دفاعا لا تتجاوزوا الحدود.. لا تعتدوا.. وهذا شواهده وقرائنه والأحكام المتفرعة عنه كثيرة جدا في النصوص الشرعية من الكتاب والسنة وحواشي الفقهاء..
الدين الذي يحث على الإنفاق على المخالف في الدين؛ يحث من باب الأولى على مسالمته..
لكن العبرة هنا أن آيات السيف إنما نزلت لتمكين المسلمين من الدفاع عن أنفسهم بعد أن صبروا على الظلم والاستضعاف والبطش بهم والتنكيل والحصار والتجويع والنفي والتشريد والتقتيل.. صبروا أمدا طويلا، ثم أذن لهم أن يدافعوا عن أنفسهم.. هذا الأصل، فإذا رجعت الأمور إلى نصابها لم يكن هنالك مبرر للهجوم على أحد، حتى الاختلاف في الدين، الله سبحانه وتعالى يقول: (ليس عليك هداهم)، ونزلت - كما يقول العلماء في أسباب النزول - بسبب ما روي من أن بعض الصحابة قرروا أن يصرفوا النفقات والصدقات التي كانوا ينفقونها على جيرانهم من اليهود عنهم، ويصرفوها على إخوتهم من المسلمين؛ لأنهم إخوتهم في الملة، فنبههم الله تعالى بقوله: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم) حتى ولو كان على مخالف لك في الدين.
فالدين الذي يحث على الإنفاق على المخالف في الدين؛ يحث من باب الأولى على مسالمته، بل وعلى الدفاع عنه إذا كان سِلْمًا لك.. تموت من أجله.. وهذا ما قضت به صحيفة المدينة التي هي أول دستور.. أرقى دستور.. وأول دستور - بالمعنى الصحيح - للمواطَنة.. يضبط العلاقة بين المتساكنين من ملل مختلفة في فضاء مشترك..
فهذه المعاني من المعاني التي تناولناها في الحديث عن العلاقة بين السلام والإسلام، منبهين في آخر ذلك إلى أن السلام لا يمكن أن يبنيه طرف واحد، وأنه لا يبنى بالشعارات، وأن تأكيد هذه العلاقة العضوية بين السلام والإسلام لا ينبغي أن يحجب عنا أن ممارستها على أرض الواقع تتطلب نظرا حصيفا ودقيقا في الأسباب العميقة للاختلالات الحاصلة هنا وهناك..
اعتماد المقاربات الأمنية وحدها من شأنه نشر الحريق..
قد نرى عملا ندينه، ونقول هذا عمل لا يقره الإسلام.. لكن لماذا حصل هذا العمل؟ ما هي الأسباب العميقة؟ ينبغي أن لا ننشغل بالعَرض عن المرض.. هنالك مرض، وينبغي أن نبحث عن أسبابه العميقة، ولا ننشغل بمعالجة أعراضه فقط، لأن الأعراض يمكن أن نأخذها مهدئات، يبقى المرض..
الإشكال اليوم أن الناس يعالجون الأعراض ويتركون الأمراض، ويعالجون الأعراض أحيانا بما يزيد من حدتها من حيث لا يدرون..
وحين تعتمد المقاربات العسكرية والأمنية وحدها لمعالجة بعض ظواهر العنف في المجتمعات المسلمة، أو التي تصدر عن مسلمين، فمعنى ذلك أن رجال الإطفاء يحملون معهم وَقودًا شديدَ الاحتراق يريدون أن يطفئوا به الحريق الملتهب.. وهيهات..
من المهم أن ينعقد مثل هذا المؤتمر على الأراضي الأوروبية.. ميدان الاتهام الرئيس..
مراسلون: تعددت المؤتمرات التي تناقش قضايا الإرهاب والعنف الديني.. ما الذي أضافه هذا المؤتمر؟
الخليل النحوي: صحيح.. هذه المسألة تتطلب نظرا متأنيا في المفاهيم التي طرحت في المؤتمر، والرسائل التي استطاع المؤتمِرون توجيهها، لكنني أعتقد أن من الإضافات ذات الدلالة - وليس شرطا أن تكون مفردة يتيمة في بابها - أن ينعقد مؤتمر من هذا النوع في أرض أوروبية، أي في ميدان الاتهام الرئيس.. هذه المسألة مهمة..
أعتقد أننا بدل أن نمارس حوارا ذاتيا - نجوى.. "مونولوج" كما يقولون - في بلداننا ونتحدث هنا عن السلام والإسلام.. نحن نحتاج إلى أن نحاور الآخرين.. إلى أن نذهب إليهم، وإلى أن نقدم لهم الإسلام كما نؤمن به.. كما نراه.. بجانبه الجوهري الذي يجعله براء من العنف الذي يتصورون أنه رديف له، أو لصيق به، وبجوانبه الأخرى التي تذكر بأن الإسلام كما أنه دين السلام فهو دين العزة ودين الكرامة..
هذه أمور تحتاج إلى أن ننتقل بها إلى الآخرين، وأعتقد أن المؤتمر أحسن صنعا بانتقاله إلى الآخرين، وشهدنا وقرأنا وسمعنا عن كثير من المؤتمرات التي تنعقد في البلدان الإسلامية من أجل تأكيد هذه المفاهيم..
ربما نكون بحاجة إلى أن نقنع أنفسنا أو نقنع بعضنا بذلك، لكن نحن بحاجة إلى أن نقنع الآخرين، حتى وإن كانت قصة الطبيب والمجنون الذي يخاف الدِّيَكة تتكرر إلى حد ما.. قد تكون حالنا أحيانا كحال هذا المريض والعياذ بالله، وقد يكون الحوار أحيانا أشبه ما يكون بحوار الطرشان كما يقال.. لكن لا بد من ما ليس منه بد.. لا بد أن نمارس مهمتنا الدعوية والبلاغية.. أن نبلغ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن نفعل ذلك بلغات أخرى، وأن نفعله أمام الآخرين.. أعتقد أن هذا أمر فيه نسبة من الإضافة، وإن تكررت مبادرات من هذا النوع فهناك دائما حاجة إلى المزيد منه..
الأستاذ فتح الله كولن من المرابطين على ثغور القلوب..
مراسلون: هل لكم أن تقدموا الأستاذ فتح الله كولن - الذي سمي باسمه الكرسي الذي دعا لهذا المؤتمر - هل لكم أن تقدموه للقارئ الموريتاني؟
الخليل النحوي: الأستاذ فتح الله كولن رجل وصفته مرة بأنه من المرابطين على ثغور القلوب، لأنه مارس دورا جهاديا كبيرا.. الجهاد المرن.. الناعم.. الذي لا شوكة فيه.. لا يراق فيه دم، ولا تهتك فيه حرمة.. لجهوده في التربية على مدى عقود وبالذات في فترات طغيان المد العلماني في تركيا.. أعتقد أن عمله كان مساهمة كبيرة في إعادة تركيا إلى دورها.. إلى حضن أمتها.. في بعث روح الإسلام فيها.. وأعتقد أن دوره كان دورا موحدا فيما يمكن أن أعتبره تركيا ما بعد العلمانية، حتى وإن كان الأتراك يتهيبون لحد الآن الصدعَ بأنهم لم يعودوا علمانيين.. لكنني أعتقد أن تركيا لم تعد تركيا العلمانية التي كانت.. تركيا تعود لتفصح أكثر فأكثر عن وجهها..
أعتقد أن الأستاذ فتح الله ساهم كثيرا في هذا العمل عن طريق المجهود التربوي والمجهود الدعوي، وعن طري الكتب التي ألف، وأعتقد أن كل ما يشوش على هذه الصورة من أهواء سياسية هو أمور عابرة.. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح ذات البين، ويلم الشمل، ويشد من أزر تركيا لتكون مفخرة للأمة ولتمارس دورها الطبيعي..
فيما وراء الحدود.. الأستاذ فتح الله أنتج فكرا.. عدد كبير من الكتب ترجم لعدد كبير من لغات العالم.. هذا بناء.. هذه المفاهيم التي تقرب الإسلام للناس وتحبب الإسلام إلى الناس.. أعتقد أنها تحسب للأستاذ فتح الله كولن، وأنها تفعل فعلها في بلا د الله في مشارق الأرض ومغاربها، وليس فقط في الساحة التركية..
هكذا رأيت الأستاذ فتح الله كولن من خلال بعض ما قرأت له وقرأت عنه وسمعت، ومن خلال ما شاهدت من أعمال الذين تخرجوا من مدرسته.. خصوصا في القلاع التربوية التي أنشؤوها في العديد من البلدان الإفريقية التي أتيح لي أن أتحرك فيها وأعمل فيها.. أرى أنهم يقومون بعمل طيب، وأرى أن ذلك يحسب لهذا الرجل، جعله الله في ميزان حسناته.. نسأل الله تعالى أن يوفقه ويحفظه، وأن يحفظ لتركيا أمنها وسلامتها، ويعيد إليها وحدة صفها..
مراسلون: ما أهم التوصيات التي خرج بها المؤتمِرون؟
الخليل النحوي: المؤتمر انتهى ببيان محدود.. فقرات محدودة خلاصتها التذكير بأن الإسلام براء من العنف.. لم يعتمد توصيات كثيرة.. كان نقاشا فكريا.. بطبيعة الحال كان من بين المشاركين في المؤتمر من اعتبروا أنه من الإسراف ومن الترف الفكري التركيز على الحديث عن السلام في بيئة مشحونة بالتوتر والعنف، والذي يعتقدون أن له مبررات ومسوغات كثيرة يجب الوقوف عندها..
المؤتمر اكتفى بأن يصدر بيانا يذكر فيه بأن الإسلام براء من العنف.. هذه هي الرسالة الأساسية التي انتهى إليها المؤتمر..
طبعا ما صدر وما أوحت به المناقشات ينبغي أن يعتبر جزءا من هذه الرسالة.. نعم الإسلام بريء من العنف لكن...
مراسلون: هل كان من بين المؤتمرين - غير المسلمين تحديدا - من تحدث عن رؤية مغايرة لهذه الرؤية؟ هل هناك من تحدث بلغة مُتَّهِمِة؟
الخليل النحوي: الغربيون الذين استمعت إليهم وتابعت أحاديثهم كانوا منصفين.. حاكموا النظرة الغربية للإسلام.. الأصوات التي استمعت إليها كانت تقول إنه من الظلم أن ينظر إلى الإسلام بهذه النظرة، وكان بعضهم يتحدث عن حالات غريبة.. إنسان يُعتقل لأن اسمه محمد.. بمجرد الاسم يكون متهما.. المتحدثين الغربيين كانوا منصفين..
النظرة الغربية النمطية المُتّهِمَة للإسلام تقابلها نظرة بعضنا التي تعتبر الغربَ شرٌّ كله!
بطبيعة الحال.. أكيد أن القائمين على المؤتمر اختاروا من يتحدثون، وأرادوا أن يسمع بقية المشاركين الصوت الآخر.. ليس هو الصوت الطاغي مع الأسف لحد الآن.. ليس هو الصوت المهيمن، لكنه موجود.. توجد في الغرب أصوات منصفة، وأصوات تدين الغرب في نظرته النمطية وتقييمه الجزافي للإسلام، ومن حسنات المؤتمر أن يُسمِعَ مثل هذه الأصوات..
أعتقد أنه من المهم جدا أن نسمع مثل هذه الأصوات حتى لا نقع في التعميمات، لأنه مقابل هذه الصورة النمطية التي تجعل المسلم متهمًا حتى تثبت براءته.. شخصًا تتجه إليه أصابع الاتهام في الغرب، أو تجعل الإسلام نفسه مدانا في الغرب.. مقابل هذا هنالك أيضا صورة نمطية أخرى تعميمية أحيانا توجد عن بعضنا نحن، تعتبر أن الغرب شر كله!
لا.. ليس الأمر كذلك.. في الغرب خير.. ينبغي أن نبحث عن هذا الخير، ولو لم يكن هذا الأمر جائزا وممكنا بل وواقعا لما وجدنا سبيلا إلى أن نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا إلى الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد".. لم يكن النجاشي يومئذ مسلما.. أسلم بعد ذلك.. لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن هنالك من غير المسلمين من فُطروا على الخير، وأن بإمكان المسلمين أن يستفيدوا من ذلك..
ينبغي أن نقر - وهذا أمر مؤسف ولكنه واقع - أن المسلمين أحيانا - أحيانا.. لا أقول دائما - يأمنون في ديار الغرب أكثر مما يأمنون في ديارهم..
لماذا لا نكسب القلوب بدل أن نطلق الرصاص؟
لدى الغرب - رغم كل سوابقه ولواحقه - مؤسسات وتشريعات يحترمها، بالإمكان التحاكم إليها.. أحيانا المسلم يجد من الأمان في بلاد الغرب ما لا يجد في بلاد المسلمين.. علينا أن نستثمر هذا الخير، حتى لو لم يكن طاغيا هو قابل لأن ننميه.. خصوصا إذا أصبحنا سفراء للملة كما ينبغي أن نكون، بدل أن نتهم.. بدل أن ندين.. بدل أن نشجب.. بدل أن نطلق الرصاص.. إذا استطعنا أن نكسب قلوب هؤلاء فلماذا لا نفعل؟
أنا أتذكر في تجارب سابقة عشتها أنني غادرت بلدا مسلما كان الحجاب ممنوعا فيه، وكانت الفتيات اللاتي يتحجبن يطاردن ويعتقلن، وتحقق معهن الشرطة والأجهزة الأمنية الأخرى؛ لمجرد أنهن سترن ما أمر الله بستره من أجسامهن.. غادرت بلدا مسلما هذه حاله وذهبت إلى بلد أوروبي في ندوة فيها ملأ من المثقفين الكبار، فوجدت نساء مسلمات بزيهن المحتشم، لا أحد يقول لهن اخلعن هذا الزي.. هذا من الخير الذي نجده في الغرب، ومهمتنا هي كيف نستثمر هذا الخير؟ وكيف نوظفه؟ وكيف نتعاون مع هؤلاء الذين في قلوبهم خير حتى نمرر الصورة الصحيحة للإسلام، والقابلة بكل تأكيد للتسويق حيثما وُجد إنسان، لأن الإسلام دين الفطرة، والغرب بحاجة إلى الإسلام.. لكن كيف نسوق له هذا الإسلام؟ هذه هي المسألة الكبيرة..
لكن بالتأكيد ليس بالعنف.. وإن كان العنف يكون أحيانا ضرورة إذا كان دفاعا.. إنما بالمنهج الذي وضحه الله سبحانه وتعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).. بالتأكيد بساط الأمر هنا يتعلق بأولئك الذين لا يحاربونك.. أما أن تدعو من يحاربك ويُشهر السلاح في وجهك بالحكمة والموعظة الحسنة فقد يقضي عليك قبل أن تبلغه كلمتك، لتلك الحال بساطها..
لكن القاعدة العامة عندنا هي أن الدعوة إلى الإسلام إنما تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، وانه لا إكراه في الدين، وأننا مدعوون إلى أن نمثل الإسلام الذي هو دين سلام، ونمثل نبيه الذي أرسله الله رحمة للعالمين.. نمثله في أخلاقنا وقيمنا وشمائلنا، وبهذا نستطيع أن نفتح قلوب الناس دون أن نحتاج إلى تجييش الجيوش أو إنفاق الأموال الطائلة أو ما لا سبيل لنا إلية في وضعنا الحالي من تحقيق التفوق في الصناعات العسكرية وما إلى ذلك....................................