الحوار مكون أساسي من الثقافة الديمقراطية و جزء لا يتجزأ من مفردات الحياة المدنية ، باعتباره أسلوبا حضاريا و مقاربة ناجعة ،لتبديد الأزمات السياسية بمختلف أبعادها ، يتم اللجوء إليه وفقا لضوابط ومؤهلات ،حسب ظروف الزمان والمكان ، لحل الإشكاليات المطروحة ،سبيلا لتجاوز العقبات القائمة وتذليل الصعاب بين كافة الأطراف ، مهما كان مصدرها ومرجعيتها الإيديولوجية وحتى خلفيتها السوسيو اقتصادية.فالحوار كمبدأ و آلية وقائية لتجنب الأزمات القاتمة علي المستوي الوطني و الدولي،يعد خيارا عالميا مقبولا و متعارفا عليه بالمصداقية و النجاعة ، غير ان الحوار يجب ان يكون محاطا بكافة الشروط الضامنة لنجاحه،الشيء الذي يفرض علي القادة السياسيين من موالاة و معارضة ،التلاقي المجاني بدون شرط و لا قيد مسبق،قصد تخصيب الأفكار النيرة المنبثقة من الإرادة السياسية الحكيمة و النوايا الصادقة ،التي تنطلق من معيار عقلاني،هدفه تحقيق الصالح العام للوطن و المواطن علي حد سواء ، مما يرسخ دعائم الوحدة الوطنية و الوئام الاجتماعي ،باعتبارهما الركائز و الثوابت الأساسية للسلم الاجتماعي .
في موريتانيا أثبتت التجارب المنصرمة ،ميل الكيان الموريتاني إلى الحوار والتفاهم ،انطلاقا من عدة مؤشرات ، يأتي في مقدمتها العامل الديني والتركيبة الاجتماعية و السياسية والبنية الاقتصادية للمجتمع الموريتاني،فالقاموس السياسي المحلي ، يؤكد خيار الموريتانيين للحوار كأسلوب مدني متحضر،فالموريتاني بطبعه ميال للسلم و المصالحة و تجاوز السلبيات ،هذا ما مكنهم في الماضي من الجلوس على طاولة واحدة ،لسد الثغرات وتضييق الهوة القائمة بين كافة الفرقاء السياسيين ، كما برهنت على ذلك مجمل محطات الأحداث التي عرفتها البلاد : مثل مؤتمر ألاك ، الحوار مع الحركات السياسية (الكادحين )، الحوار الاجتماعي مع مختلف التنظيمات النقابية ، الأيام الوطنية للتشاور، المنتديات العامة للديمقراطية ، اتفاق دكار،الحوار مع السلفيين ، و أخيرا الحوار الوطني بين الأغلبية و بعض أحزاب المعارضة الديمقراطية سنة 2011 م ، وقد انبثقت عنه توصيات و مقترحات ،جسدت فيما بعد بقوانين أصبحت سارية المفعول،حيث أصبحت حلقة فاصلة في تطوير النموذج الديمقراطي الحديث العهد في البلاد .
إن المرحلة الحالية تفرض على جميع أفراد المجتمع السياسي الموريتاني ،إحداث تحول ديمقراطي علي مستوي المشاركة السياسية الذاتية و الجماعية ، وذلك من أجل إنجاز المهام المصيرية كضمان الأمن و الاستقرار و الحفاظ على الوحدة الوطنية و تحقيق مستوى مرضي من التنمية ، كما يتحتم على النخبة السياسية الوطنية أن تنحي جانبا الأغراض الشخصية و أن تبحث المشكلات الحقيقية التي تعيق التحول الديمقراطي ، فبقدر ما ينجح الجميع في التحلي بالمسؤولية وتقديم المصلحة العامة على المصالح الضيقة ،بقدر ما يرتفع مستوى التفاهم بين الفرقاء السياسيين و تضيق الهوة بينهم. فالمشهد السياسي يطبعه الكثير من الإختلالات البنيوية التي قلما أنبري بها بعض الزعامات و المكونات الأساسية في منظومتنا السياسية ،اتجاه القناعات و المصالح العليا للبلد ،في ظرفية تتطلب تماسك الصفوف و تقوية الجبهة الداخلية ،ضد كافة الاحتمالات المرتقبة من مواقف ،قد تزعزع الأمن و الاستقرار ، اللذان يعتبران أهم المكاسب في مرحلة ما بعد الربيع العربي و عملية التحديث السياسي ،التي بدأ العالم يتعاطى معها بإيجابية ،سبيلا الي قطع الطريق أمام محاولات تهدف من بين أمور أخري ،إلي الدفع بالبلاد إلي مربع الانطلاقة للعملية السياسية،دون مراعاة للعواقب المحتملة ،لتلك التصرفات ولا انعكاساتها السلبية،في عالم مليء بالتناقضات العميقة و التحولات الساخنة.
ان القطيعة بين أطراف المعادلة السياسية ،تعكسها بجلاء النزعة الذاتية الراسخة في البنية السياسية الموريتانية ،لدرجة تجعلنا نتساءل ،هل النخبة السياسية الحالية قادرة على تطوير الأداء السياسي ،من خلال الحوار وفقا لمبادئ الديمقراطية التعددية ؟ أم أنها أداة للإقصاء و الاحتكار لمجالات عدة ؟ إن إشكالية الحوار و العنف من ثنائية القطبية ذات المعني المزدوج ،الذي يتطلب الحكمة في التعامل مع معطيات الواقع ،(فالكلام المتبادل مطلب و القول ضرورة،لتبديد واقع العنف و تقليصه الي أدني حد ممكن) فرانسوا شاتلي (مفكر فرنسي معاصر).ذالك ان الحوار هو السبيل الوحيد لإحداث التوافق الوطني و إدانة العنف و التخريب،من خلال إشراك مختلف القوي السياسية،لتجاوز الصعوبات التي تواجهها البلاد،للمضي قدما في المصارحة لتحقيق المصالحة السياسية الجامعة و المانعة للتطرف و التشظي ، الشاملة لمختلف الطيف السياسي،قصد رسم ملامح خارطة طريق عقلانية،تأخذ في الحسبان بروز طبقة سياسية شابة،أصبحت من أكثر المجموعات حضورا في المشهد السياسي الوليد.
إن صيغة النظرة الشمولية للحكم ،لم تعد قابلة للتأقلم مع متطلبات العصر ، نتيجة ما يطبعه من حراك سياسي و اجتماعي ،نتجت عنه في بعض النماذج نتائج وخيمة ،حملت معها انتفاضة الشارع العربي ،المطالب بالتغيير و ما أصبح يعرف بالربيع العربي ،الذي فرض نفسه كمعادلة إقليمية لا مناص منها ،في وجه التحولات التي بدأت في الأفق ،بفعل إرادة الشباب الذي امتطي وسائل التواصل الاجتماعي ، كخيار بديل يحمل أكثر من دلالة،داخل محيط عربي يجهل عموما ثقافة الإعلام الرقمي ،مما أدي إلي حصول الكارثة و الانتكاسة ،التي أدت الي الحروب الأهلية و الدمار الاقتصادي و انتشار حالة من الفوضى ، آلت الي الفتن و عدم الاستقرار السياسي الدائم . أي تلك التجليات المؤلمة في كافة حلقات التغيير و التناوب السياسي ،الذي كان مطلبا مشروعا بالوسائل السلمية.علي الرغم من كثرة المحاولات اليائسة،لمعالجة واقع أليم ،انطفأت ناره في بعض البلدان و خمدت تحت الرماد في أغلبية البلدان العربية.
إن الظرفية الحالية لواقع البلد تتطلب تصحيحا وتقويما ،يتماشى مع ما تمليه مصلحة البلد من تنازلات من هذا الطرف أو ذاك ، قصد الخروج من نفق مترامي الأطراف ،لنسلك معا طريق السلم و الأمن الاجتماعي ،من خلال مقاربة تشاركيه تنطلق من الواقع ،لتستلهم هموم المواطن و انشغالاته ،بعيدا عن المحاباة و المغالطة العمياء،تمهيدا لحوار حقيقي بين كافة الكتل السياسية،المؤسسة للنسق السياسي الكلي للبلد.فالحوار يشكل قيمة مضافة لديمقراطية،كما يشكل فرصة تاريخية سانحة ،لكافة الموريتانيين علي الرغم من التجاذب السياسي ،لمختلف مكونات الطيف السياسي،كما يشكل الفرصة التاريخية للنخبة السياسية،التي تميزت بالنضج السياسي،لتجاوز الخلافات الضيقة من خلال التبادل و التفاهم ،حول مجمل القضايا المصيرية،عن طريق الخطاب البناء المتحضر،المتسم بالتسامح و قبول الطرف الآخر،انسجاما للطاقات و القدرات الوطنية في بوتقة البناء الوطني .
اليوم يتساءل الكثير من المراقبين عن مصير الاحتقان السياسي القائم في البلاد ،فهناك تأزم متصاعد في العلاقة بين النظام و المعارضة ،ممثلة في المنتدى الذي يضم قوي سياسية و مدنية معارضة للنظام،تشكله منسقية المعارضة التي قاطعت الانتخابات النيابية و البلدية الأخيرة ، مدعومة بحزب تواصل الإسلامي.في ظل حالة التأزم هذه،أعلن النظام عن استعداده للحوار علي لسان الرئيس محمد ولد عبد العزيز في خطابه بمدينة شنقيط ،بداية العام المنصرم ،لكن المنتدى المعارض سارع للتشكيك في جدية تلك الدعوة،معتبرا أنها مجرد فصل من فصول الاستهزاء و الاستخفاف بالشعب الموريتاني،فيما فضلت كتلة المعاهدة الصمت و الترقب ،في البداية ،قبل أن يدخلها النظام علي خط الوساطة ، لتفعيل و توسيع قاعدة التشاور مع باقي القوي السياسية المناوئة للنظام،علي الرغم ان قادتها ، سبق أن أطلقوا دعوات للحوار،لم تجد التجاوب المطلوب من طرف النظام و معارضيه. في حين يتمسك الجميع بالحوار كوسيلة ديمقراطية يجب التعاطي معها بالجدية ، فعلي المعارضة أن تنحو منحا ديمقراطيا من دعوة النظام القائم،علي الرغم من غياب الإحساس لدي الأطراف بأهمية و جدوائية الحوار ذاته،مما يعمق الفوارق العائقة أمام تقدم مسار التمهيد نحو حوار حقيقي تصالحي مثمر و بناء.
إن وضع خارطة طريق عقلانية و موضوعية مقبولة مسبقا من كافة الأطراف ،يعتبر خيار لا مناص منه ، كي نقلع بموريتانيا إلى بر الأمان متماسكين،بعيدا عن المطالب الطوباوية التي لا تستند علي أي أساس من المنطق،قصد تطبيع الحياة السياسية في البلاد،بعد أزمة سياسية منذ أربعة سنوات،نتيجة القطيعة الحاصلة بين السلطة و المعارضة.فالجلسات التمهيدية للحوار تهدف الي تحديد جدول أعمال حوار شامل ،يشارك فيه مختلف الطيف السياسي في البلاد،من أجل التوصل الي توافق،يفضي الي نظام سياسي يقوي اللحمة الوطنية ،كما يمهد للتناوب السلمي علي السلطة.
فالمتتبع لمسار الأحداث الوطنية ،يدرك بجلاء الإرادة الصادقة للنظام القائم وسعيه الدؤوب إلى حوار وطني توافقي ،حول مجمل القضايا الوطنية ،بما فيها جدولة الانتخابات والاستحقاقات دون شرط و لا سقف ،قد يشكل عائقا أمام مبادرة منسقية المعارضة في توحيد جهودها ،في ظل خارطة طريق تم تسليمها رسميا،حددت من خلالها الإجراءات العملية وشكل و برنامج الحوار من الناحية الزمنية ،مع توفير المحاور العامة التي على أساسها سيناقش الأطراف اقتراحاتهم المتبادلة ،قصد الوصول إلى اتفاق سياسي يعتبر الإطار التوافقي مع كافة الضمانات الضرورية ، لقيادة البلاد في المرحلة المقبلة،انطلاقا من انتخابات توافقية شفافة مرضية للجميع ،مع توفير مناخ سياسي مواتي لكافة الفرقاء السياسيين ،يقلص الاحتقان السائد و يضمن التناوب السلمي على السلطة من خلال انتخابات ذات مصداقية ، تشكل درعا وحصنا متينا للنظام الجمهوري ، تمنعه من التغييرات الغير دستورية و توفر للبلد الأمن و الاستقرار و السلم الاهلي.
إن الوقوف على حقيقة أمر الواقع للحوار ، حول آليات و شروط تنظيم المشهد السياسي ، يتطلب من الموالاة و المعارضة الكثير من الحكمة و الحنكة ،خارج سرب الأجواء المشحونة و الأحكام المسبقة ،التي لن توفر الأرض الخصبة ،لبنية قابلة للتشاور ولا حتى الجلوس على طاولة مفاوضات ،بإرادة و نية صادقتين ،تمهدان لبناء الثقة ،قصد تضييق الهوة بين كافة القوي السياسية ، تبشر بأمل الحوار البناء ، بعيدا عن التعنت الممنهج من قبل المعارضة في ارتباطها باتفاق داكار ،الذي هو في حقيقة الأمر ،مجرد محاولة للقفز إلى الوراء ،بحثا عن مصداقية أصبحت في خبر كان.
في انتظار نتائج الحوار المنشود ،الذي يترقبه الطيف السياسي ،نظرا لحجم القواسم المشتركة،يبقي الأمل معقودا علي استكمال مسيرة التحول السياسي ،التي تسهم في إعادة تشكيل صورة الدولة الوطنية،التي تحتضن و تتسع للجميع،بعيدا عن الإقصاء و التهميش ،للخروج من مناخ الاستقطاب السياسي،مما يحقق الثقة التامة المتبادلة ،لدي شركاء موريتانيا في التنمية ، لجذب الاستثمار العام و الخاص ، الضامن لاستمرار النهضة التنموية ،التي بدأ البلد يتعاطى معها بشكل إيجابي.
عبد الصمد ولد إمبارك