وأنت تقرأ هذه السطور... أستحلفك بالله ، قل لي: أي هؤلاء الثلاثة تراه أولا، وأحق بالسبق؟
أعلم أنك لحسن ظني بك ستقول إن الوطن أولا. فإن كان، فكيف ترى الوطن؟ أهو ما يجمعني وإياك كهوية؟ أم هو مسقط رأسي ومسقط رأسك؟
ربما تكون حولك من متزلفيك حلقة، فتجد هذا السؤال مناسبة لتدبج فيها أمامهم أروع الخطب في المواطنة والوطنية. ولكن أستحلفك بالله أن تجيبني: كم نسبة الصدق فيما تقول؟ ألا تذكر أنك تعلم في قرارة نفسك أن الوطن بالنسبة لك لا يتعدى محيطك العائلي ، ثم إن انفرج قليلا فلا يبلغ أكثر من مسقط رأسك.
هنا يكمن مربط الفرس، وبيت الداء. ومن هنا ينكشف الفعل السياسي عندنا مقيتا، أغبر بألوان الذئاب.
فما من رئيس حكم هذا المنكب، إلا ونحسن به الظن في بادئ أمره.فقد تكون دوافعه الشخصية مساوية لنيته الطيبة في الإصلاح. لكن شياطين الإنس من الذين صرفوا عقولهم ونياتهم وجهدهم في تنميق الكلام،وتحسين القبائح، وتقبيح المحاسن. أكلة لحوم الناس وناهشي الأعراض. سرعان ما يتلقفون الرئيس الجديد، وبحكم التجربة، فلا يزالون به، يسفهون له كل طيبات الأقوال والأعمال. ويحَسنون له كل عمل يرضي نفوسهم المريضة.حتى تزل قدمه بعد ثبوتها. بل إن منهم من يبدي له من القول والعمل ما يخفي عكسه، ويظل في خدمته نهارا، ويبيت في تدبير الإطاحة به ليلا، لأنه رآه خرج عن دائرة مصالحه. فيقول في نفسه "سأتعشى به قبل أن يتغدى بي". والأمثلة في تاريخنا السياسي دالة في الصميم على صدق هذا القول حتى يومنا هذا. وحبذا لو أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز مثلا – وهو الرئيس الحالي- يستمع يوما لعامة الناس في غيبة من خاصته. فلعمري ليعلمن أن أنه لم يكن يرى إلا ربع الحقيقة أو ينقص قليلا. وصدق من قال:" ما أسقط السلطان مثل حاجبه".ولذلك كان صلحاء السلاطين يتنكرون في ثياب العامة ليطلعوا على حال رعيتهم.
وفي المقابل فقد ابتلينا بمعارضة لا ترى الأمور إلا بعين واحدة، عين الحسد والغيرة، لا عين الوطن ومحبة الناس، ولأن النظام ومن يدور في فلكه قطع معها حبل الوصل- وهو ما يتوقع عادة-، وأنزلها منزل المراقب الناصح، فإن ذلك يقطع باليقين أنها لا تعارضه لأنه حاد عن خدمة الصالح العام، بقدر ما تعارضه لأنه حرمها طعم الكعكة، وهجرها هجر العائف المتوجس. إنهم لا يعارضون لأنهم يعتبرون الوطن لي ولك ولهم، بل لأن الجيب خوى، والوجه ذوى. وما عاد إلى طيب العيش في المكاتب الفسيحة طريق. لا يحدوهم حادي وطن. وإنما جنون العظمة وحب الرئاسة. ومن خلف الموالاة والمعارضة متعلمون يتقنون التملق ويبيعون الألفاظ والحجج. يناصرون الحاكم إن أقبل إليهم، ويعادونه إن أعرض عنهم.وفي صمت مطبق، يموت مثقفون كبار، آنسوا من وطنهم ولاء زاده العلم والمبادئ.
وبين هؤلاء وأولئك، يبتلعنا الإملاق، ويستبد بنا الخوف على أنفسنا وأبنائنا، ومستقبل وطن مرهق لم يقيض له الله بعد من ينظر إليه بعيون مفتوحة، لا تحجبها أغلبية ولا تعييها معارضة.
يا هؤلاء ويا أولئك: تذكرا جيدا أن العامة غول أخرس، قد تهجنه دهرا، ولكنه قد ينقلب عليك فجأة فيصرعك، ولهول بطشه يحطم كل شيء في وجهه... " ومعظم النار من مستصغر الشرر."
قد يقول قائل: ما تركت لك يا هذا من صديق ، فلا المعارضة سلمت من قلمك، وما أبقيت لك في الموالاة من ودود. فله أقول: أبقيت لنفسي عند ربي وربك وربهم: كلمة حق لي ولك ولهم وللتاريخ.
بقلم أحمد محمود ولد العتيق