حمير .. / أبو العباس ولد ابراهام

أحد, 2016-03-20 10:13
أوكى، لقد فهمتُكم!
إنّكم مستاؤون من مشروع بيع الحمير الموريتانيّة للصين (الذي، بالمناسبة وكالعادة، لا تتوفّرُ لنا معلومات حقيقيّة عنه).
ولكم في ذلك مذاهب شتّى.
بعضُكم يعتقد، دون أن يشرَح بالضرورة، أن هذا غير أخلاقي. بعضُكم يعتبره حراماً. بعضُكم يُقارنه ببيع السنوسي وصفقة أكرا. وبعضُكم، أكثر جديّة، يَخافُ من تسرُّب لحم الحمير في سوق اللحم الأحمر، غير المضبوطة أصلاً. أما البعض الآخر فقد التثم لثاماً من التوبيت وبقيّ يضحك بهستيرية حتّى وقت كتابة هذه الأسطر.
وسرعان ما حوّلتم الموضوع إلى ملحمة غنائية ومسابقة شعرية في الحمير. وأنتجتُم في ذلك حتّى أدباً (ليس رفيعاً دوماً، إذْ لم ينجُ من كليشيهات استغباء الحمير السّمِجة). وتماماً كما حصل لكم في قضيّة "تحريم البلاستيك" فقد غمّض الجنريك الشعبي على بعض القضايا البيئية المستعجلة.
-2-
لا تسيؤوا فهمي. إن الحمير على العين والرأس. وبما أنّ الشرعيّة لا تستتِبُّ في هذا البلدِ إلاّ بالنسب، فإن الحمير هم من السكان الأصليين بهذه البقاع (رغم أنّهم، بعكس الفيّلة والأسد والنعام والجواميس، لا يظهرون في الرسومات الكهفية حتى بعد الميلاد). وهم إخواننا وأخواتنا. لهم ما لنا وعليهم ما علينا. وقد تقاسمنا معهم الحياة على قرون. ونحن ننعم تقريباً بنفس الحقوق. ورغم بعض الخلافات السياسية (حيثُ يشكو كثيرٌ من الحمير من سياطِنا، ويشكو كثيرٌ من ريفيينا من حوافر الحمير على جباهِهم) إلاّ أنّنا، في الحقيقة وباستثناءات ضئيلة، نُحبُّهم في الله.
-3-
ولكن هنالك عدّة مشاكل. مشكلة الحمير أنّهم تحرّروا بسرعة ولم يعودوا رفاق درب، لأسباب سوسيولوجية وتموينية وتقانيّة عدّة. ومع تقدّم نظام صرف المياه والنقل والفتح الذي قام به مؤّخراً التوك توك للمدن، دالت مدانة الحمير إلى زوال وآل كثيرٌ منهم للتقاعد. وهكذا أسّسوا مجتمعات غفيرة في غرب البلاد وجنوبه. واستفادوا من الصحة العامة وتضاعف معدلاّت العمر وانتفاء الأوبئة وزيادة نسب الزواج والخصوبة وانخفاض نسب الوفيات. تمّ تشييد ممالك حميرية (بفتحِ الحاء، أما بكسره فقد تأسست ممالك قبل ذلك). وبدأت مشكلة مالثوسية تظهر في صراعِهم مع بقيّة الأنواع على العلف والعشب والطرق السيّارة، وحتّى الأكسجين. نسبة كبيرة من حوادث السير تأتي من هذه الحمير الانتحاريّة أو السائبة (التي، بالمناسبة، لم تعد حُمُراً أهلية، كما قرّرَ متفقِّه).
هذه هي نفس المشكلة بأستراليا. أكثر من مليوني جمل بقوا في الفيافي الأسترالية بعد أن أتت بريطانيا بقليل منهم من باكستان والهند في ثمانينيات القرن التاسع عشر لاستكشاف أعماق البلد-القارة وحمل الأثقال والمعدات به. وبعد إرساء القاطرات انتفت فائدة الإبل. تقاعدوا وتكاثروا بآلاف الآلاف. والآن صارت الإبل تُقوِّضُ الزراعة والمصادر المائية وتُهاجِمُ القرى وتُسبِّبُ حوادث السير. الأستراليون ردّوا بقصف الإبل بالمروحيات وقتل مئات الآلاف منها. ومؤّخراً بدأوا في شحنِها وبيعِها للخليج العربي، بل وحتّى إعداد تجارة من لحومها.
-4-
ليس قصدي، بل إن همّتي أقصر من، تأييد أي سياسة (خصوصاً تلك التي لا تتوفّرُ لي عن بلد غير شفاف في معاملاته العامة والخاصة)، وخصوصاً سياسات القصف والسلخ. ولكنني أوّد الدِّفاع عن مقاربة بيئية لموضوع الحمير. جدِيّاً يجب رؤية الحمار بعينٍ بيئيّة. الحمار أخونا، ولكن- مثله مثلنا- فإن أداءه البيئي يحتاج لمزيد من العمل. يجب أن يشتغل الحمار على هذا الموضوع. إلى حدِّ الآن تقِفُ الكِلبيّة الشعبيّة ضدّ أي مقاربة كهذه. ثانياً، وبدل إفناء الحمير أوتسييجها وتجويعِها، فإنه يجب وضعها في سلسلة المصادر الطبيعية بالبلد وتحويلُها إلى مناطق لا تكون فيها خطراً بيئياً.
تبدو هذه المحاججة عقلانية، ها؟ ليس كذلك بالنسبة لخصومها: الكِلبيّة الضّاحِكة، التي تُميِّعُ النِّقاش العام. الأصولية التي تحرن، بحجج من المخيال الدِّيني، أمام تحريم بيع لحوم الحمير الأهلية (مع أن الحمير المذكورة ليست أهلية، والمشروع الذي أدافِعُ عنه ليس بيع لحوم الحمير). سرعان ما سيتحوّل هذا النقاش إلى نقاش شعبوي ديني فتتأجل قضيّة عاجلة أخرى.
دعني ودعيني أدافع عن فكرتي بالشِّعار. الحمير لله؛ والوطن للجميع.