موريتانيا تودع أحمد بابا ولد أحمد مسكه ..

خميس, 2016-03-17 09:48

/ باباه ولد عابدين

شيع الموريتانيون مساء أمس جثمان الراحل أحمد بابا ولد أحمد مسكه إلى مثواه الأخير في مقبرة لكصر بالقرب من روضة والدته المرحومة سويعيدو بنت بزيد,

و في مطار نواكشوط الدولي بدأت المراسيم باستقبال الجنازة القادمة من العاصمة الفرنسية (باريس ) لتأخذ بعد ذلك طريقها في موكب مهيب إلى جامع تيارت (مسجد ولد امحود) حيث كان ينتظرها مئات المودعين  لتأدية صلاة الجنازة عليها..

و اثناء التحضيرات سجل مراسل مراسلون حضور العديد من الشخصيات الكبيرة كما شوهد بعضهم يسهل الطريق للشيخ محمد الحسن ولد الددو لإمامة المصلين لكن أصواتا عدة تعالت من بين المصلين ترفض ذلك و تؤكد أن الشيخ أحمد بابا (قريب المرحوم) هو من سيصلي بالناس على جثمان السياسي الكبير و اليساري العالمي..

رفع الجثمان على الرؤوس طيلة الطريق المؤدي إلى سيارة الإسعاف التي ستتبع سيارة لتجمع أمن الطرق باتجاه مقبرة لكصر حيث ووري جثمان الصحفي و الشاعر و الأديب و السياسي و المثقف و.... المرحوم أحمد بابا ولد أحمد مسكه

وقفات تاريخية

شب أحمد بابا ولد أحمد مسكه على كره الإستعمار (فهو إبن شنقيط الأم) و وريث أبطال المقاومة’, و ظل يتمرس في "شنقيطه " و "أطاره" على أساليب تصفية الاستعمار و ما إن نضجت الفكرة لديه حتى أسس مع رفاق دربه "حزب النهضة" الذي سجل أسماء أعضاءه من ذهب حين سقى الفرنسيين (المستعمر) و أذيالهم في انتخابات 1952 طعم الهزيمة و أفزعهم حتى زوروا تلك الانتخابات لصالح مرشحهم بعد ذلك بيسير من الزمن جمع الرجل حوله مجموعات شبابية باحثة باجتهاد عن طريق لتحرير البلاد و العباد من هيمنة المستعمر الظلامي و الظالم و أسسوا "حركة الشباب الموريتاني" لتنضاف إلى حزب النهضة طاقات حية و نشطة ما بخل أصحابها بحياتهم في سبيل وطن حر لا مكان فيه "لأملاز" و لا "لقوميGoumier " لا و لا "لمتعسكرTirailleur"أحرى لفرنسي وهب حياته لظلم البشر و استنزف مقدراتهم.

بعد إعلان "الاستقلال" الذي اعتبره أحمد بابا و زملاءه التحرريين "استغلالا" و رغم زجهمم في السجون "تلك الليلة الليلاء" من طرف الحكومة " الوطنية" الأولى بسط الأبطال أياديهم و "تمنوا" أن يكون الاستقلال حقيقيا و انخرطوا في اللعبة و عين أحمد بابا (و البعض الآخر) سفيرا في ساحل العاج و من ثم في نيويورك حيث الأمم المتحدة و لم يستمتع "الإنسان" المقام في بلاد العم سام و يتنكر لأمة ولدته في ربوعها و ربته بين وديانها و قيعاتها, أمة علمته من العلوم و من الأخلاق ما يؤكد له أنه ليس فقط سفيرا لجمهورية طارئة على المنظمة الأممية ,بل سفير كامل السلطة و فوق العادة لأمة لا معنى لوجود لا يتفهم هويتها و مجالها..

نازل الراحل في حلبات الأمم المتحدة أعداء الوطن من مشارب شتى و انتزع منهم اعترافا موثقا لاستقلال بلده الأم و أحقية إخوة له يسكنون الصحراء الغربية في تقرير مصيرهم بأنفسهم دون تدخل إسبانيا القوة الظالمة الأخرى التي استولت على أرضهم بالقوة و نهبت خيراتها

. ما إن تبين لأحمد بابا و لغيره من زملاء النضال مكر فرنسا و رفضها مشاركتهم في تسيير بلدهم خوفا على مصالحها و بسماعه عويل نساء ازويرات "وقف بالبطاح يحيي مسقط الشهداء" في مقطوعة رائعة تحفز الناس على الثورة و تأميم "ميفيرما إحدى أهم مصادر الدخل لفرنسا الإستعمارية ..و أخذ عصى الترحال و جاب عواصم العالم محاضرا و معبئا ضد أخطار الإمبريالية العالمية و هيمنها على الكون و في تلك "الحجة الطويلة" نسج علاقات متينة مع رموز العالم الثالث و مناضلي الحقوق وخاصة  ثوار آمريكا اللاتينية (خاصة كوبا : تشي غيفارا و كاسترو...) و ما رضي أبطال فيتنام بترك أحمد بابا منهلا للاتينيين و للأفارقة وحدهم بل شاركوهم فكره الراقي و دندنوا عليه خلال جميع لقاءاتهم به و فتح لهم (كغيرهم) صفحات مجلته الباريسية Afrique/Asie و ابلغوا عبرها العالم رسائلهم و ظلم الأمريكان و أعوانهم لشعب "هو شي منه الصامد" بعد ما تأسست جبهة البوليساريو التقى الرجل بمؤسسها و عبر لهم عن تضامن غير مشروط من طرف أخ و مناضل عالمي "غير ربحي" و قاد حملة عالمية لصالح ما عُرف بالثورة الصحراوية تكللت بعشرات الاعترافات الدولية بالجبهة كممثل للشعب الصحراوي, و بما أن تصفية الإستعمار كانت أحد أهدافه الكبرى ظل الرجل مع الصحراووين في أفراحهم و أتراحهم إلى أن دخلت موريتانيا "ظلما أو خطئا.. لا يهم" مستنقع الصحراء : صرح الرجل مرارا و تكرارا و شهد له من عاصروا تلك الفترة أنه لم يساهم في حرب الأشقاء (الحرب الصحراوية-الموريتانية)..

و انسحب ليتفرغ إلى عالم الثقافة و شغل مناصب رفيعة في منظمة اليونيسكو الأممية في باريس.. و من أشهر إنجازاته و أقواها تأثيرا "رسالته إلى مثقفي العالم الثالث" التي أصبحت نموذجا عاليا في النضال و مدرسة راقية لطالبي التحرر الاقتصادي و الثقافي و الاجتماعي عن التبعية الغربية. له في تحقيق السلام كثير من التدخلات و الوساطات و أشهرها "إتفاق تمنراست" مطلع تسعينات القرن الأخير بين جبهات التحرير الأزوادية و حكومة باماكو المدعومة من فرنسسا و الذي لولا إخلال مالي به لأصبح مرجعية مهمة لتحقيق السلم في الدول المنشطرة اجتماعيا و ثقافيا..

ألف المرحوم الكثيير من الكتب و المنشورات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر " الوسيط" باللغة الفرنسية و الذي عدد فيه جل الثقافة المحلية لبلاده و أصبح مرجعا يعتد به الباحثون في الشأن الثقافي الموريتاني, كما أصدر قبل سنة و نيف كتابا كبيرا ذا قيمة تحليلية عالية تحدث فيه عن الإستعمار الجديد Néocolonialisme الذي ظهر مع الحكومات الأولى التي مكنها المستعمر من قيادة بلدانها أو (سوقها على الأصح إلى التبعية في كل شيئ) و مرت الأيام و السنون و لم يتغير أحمد بابا ولا دجن تفكيره و حافظ رغم عقود من الغربة على لثام رائع يضعه في رقبته أو على رأس ظل شامخا يمثل بلاده و مجتمعه أحسن تمثيل.

و في السنوات القليلة بدأ في كتابة مذكراته بالتعاون مع المدير التنفيذي لوكالة الأخبار الدكتور الهيبة ولد الشيخ سيداتي الذي كتب أنه سلمه الجزء الأول منها لتنقيحه

رحم الله المخضرم أحمد بابا ولد أحمد مسكه و أسكنه فسيح جناته كان ثائرا شجاعا قبل أن يرحل عنا بصمت .. إنا لله و إنا إليه راجعون