كنت قد كتبت خاطرة في اليوم الثاني لوفاة الدكتور حسن الترابي رحمه الله رحمة واسعة، ضمنتها انطباعا أوليا عن هذه الشخصية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، ووعدت بالعودة للموضوع بعد حين، وها أنذا أفعل راجيا من الله قدرا من التوفيق وشيئا من العدل والإنصاف في شأن رجل أسال مدادا كثيرا في حياته وبعد موته من مريدين وأنصار ومنصفين، كما من خصوم وأعداء ومتحاملين.
- لعله من المفيد الإشارة في البداية إلى أن الدكتور حسن الترابي اختار لنفسه منهجا في التفكير وطريقة في العرض أثارا جدلا واسعا في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، وظل البعض ـموافقا ومخالفاـ يركز على منهج التفكير ومضمون الأطروحات، وحسنا فعل هذا البعض مما أعطى لمناقشته للرجل جدية وفائدة سواء أيده أو عارضه.
وفضل البعض الآخر التركيز على طريقة العرض التي تخذل ـفي بعض الأحيان ـ فكر الرجل وقيمته ـ خصوصا العرض الشفوي في المحاضرات العامة حول القضايا المثيرةـ ثم إن تنوع المسائل والمواضيع التي تناولها الترابي في رسائله المكتوبة أو محاضراته المسموعة أو مقابلاته الصحفية العابرة، من قضايا التفسير إلى أمور الفقه وأصوله إلى إشكالات الفكر والسياسة إلى متعلقات العقائد، هذا فضلا عن تجربة عملية طويلة ومثيرة، إن هذا التنوع كان سببا بدوره في حجم ومستوى وتشعب المناقشات حول فكر وممارسة الشيخ الترابي.
- في لقاء جمعني وآخرين بالشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية على هامش العزاء في الشيخ حسن الترابي كان البعض من الحضور يعرف نفسه بأنه تلميذ الشيخ حسن والبعض يعرف نفسه بأنه تلميذ للشيخ راشد، وقدمت نفسي باعتباري أجمع بين الشيخين، ولكن مما تعلمت منهما أنهما لا يشترطان التقليد على التلميذ وله أن يخالف ويعترض.
إن من أهم ما يميز أطروحات الدكتور حسن الترابي أنه يمارس ويشجع الفكر النقدي تجاه التراث الإسلامي عامة وتجاه الحركة الإسلامية وشخوصها وشيوخها..
أدرك أنه ليس من السهل على منتمٍ إلى المدرسة الإصلاحية العقلية في الفكر الإسلامي أن يتحرر من تأثير شخصية في وزن الدكتور الترابي، ولكني فاعل إن شاء الله، لأن ذلك هو مقتضى العقل ومنطق التصور النقدي الذي يحفظ مكانة الأشخاص في إطارها ويحتفظ بالقدسية للمبادئ على لغة د. محمد المختار الشنقيطي.
كان الرجل سباقا
لم يجد كثيرون ممن تابعوا مسيرة د. حسن الترابي صعوبة في اكتشاف التميز المبكر في شخصيته على المستويين العملي والنظري من حيث الممارسة ومن حيث التفكير، فالرجل الذي سبقه آخرون في قيادة الحركة الإسلامية السودانية لم يجد صعوبة بعد عودته إلى بلاده بأعلى الشهادات العلمية من أهم عواصم التدريس الجامعي والأكاديمي (لندن وباريس) في شق الطريق سريعا نحو قيادة هذه الحركة سياسيا (جبهة الميثاق الإسلامي) ثم على نحو موحد بعد حين قليل.
وكان واضحا أن للرجل طريقة في التفكير ونمطا في القيادة غير تقليديين سواء في داخل بلده أو في علاقته خارجه أو في الإشكالات الاجتماعية والسياسية المثارة، وهكذا بعقل تنظيمي مركب وطريقة إبداعية أقر بها كل معاصريه ورؤية سياسية جريئة شق الترابي طريقه بالحركة الإسلامية السودانية.
وفي وقت لم يكن فيه الإسلاميون متحمسين للسياسي البارع، ولم يكن الآخرون يرون في الإسلاميين إلا دعاة لا يخططون، وأصحاب فكرة لا يناورون أظهر الرجل شطارة سياسية دشنها بثورة أكتوبر/تشرين أول 1964 ضد الفريق إبراهيم عبود، ثم مشاركة كان أداؤه وصحبه فيها أكبر من حجمهم وقاعدتهم الشعبية.. وظل المسار السياسي من بعد في تطور وتألق بشهادة كل متابعي الرجل وحركته، حتى وهم يتحالفون مع مستبد ظلم السودانيين وأساء إليهم (جعفر النميري) استطاع الترابي وإخوانه إبراز القيمة لهذا التحالف من حيث النتائج والمآلات لتصبح طاغية على صورة التحالف مع نظام "القمع" و"الفلاشا".
لم يكن تميز الترابي خاصا بالمسار السياسي العملي بل بدأ مبكرا، مضيفا ومثيرا في المجال الفكري والفقهي.
- في كتابه "الصلاة عماد الدين" خاطب الترابي أبعادا غير معهودة في موضوع الصلاة وأعطى لهذه الشعيرة ثم لاحقا لشعائر أخرى في رسالته عن "الشعائر الدينية" معاني نادرا ما تحضر عند المتحدثين في شأن الصلاة الذين تشغلهم فقهياتها وبعدها التزكوي عن هذه المعاني. لننظر إلى إهدائه للكتاب (1971):
"إلى المصلين الساهين عن معنى ما يؤدونه إلا مراعاة لمجتمع رقيب أو وفاء لتقاليد أسرة صالحة أو مناصرة لمظهر عصبية دينية، وإلى الذين تركوا الصلاة وما زالت في نفوسهم جذوة من إيمان وقبس من دين لم يمرقوا من ملة الإسلام ولكنهم جهلوا حكمة تلك العبادة فلم يبالوا بها وهي أوجب الواجبات".
ولفت انتباهي حضور هذا المعنى حتى في إهداء مختصر كتبه لي على نسخة أهداها إلي بعد أربعة عقود في بيته المعمور في ضاحية المنشية:
"هذه خواطر حررتها منذ حين أهدي مكتوبها إلى الأخ محمد جميل للتأمل والتدبر والتجديد في وصل الشعائر بالوجدان فوصلها بالغيب وبالحياة المشهودة".
وقد تطورت هذه المعاني لتصبح السر الفكري والنظري في كل أو معظم ما يكتبه الرجل ولتتجسد في ثنائية التوحيد والتجديد والتي خدمها برسائله ومحاضراته المنشورة من بعد.
كان كتابه "الإيمان وأثره في حياة الإنسان" (طـ 1، 1974) كتابا جديدا في طريقته وخلاصاته، لن تجد فيه العقائد كما قدمتها السلفية الإسلامية المعاصرة بل ستجد تأسيسا لإيمان واضح مفهوم يخاطب الوجدان وتُتلمس آثاره في حياة الإنسان عبادة والتزاما، خدمة وعطاء وخلص فيه في كلمة المختتم إلى أن "المؤمن كلما سخر من طبيعة الكون واعتلاها بالعلم والعمل تجاوزها متحررا لعبادة ربه، وكلما استوفى من أغراض الدنيا ارتفع همه مشرئبا نحو الآخرة، وكلما تشعب سعيه في الحياة تباركت به أسباب العبادة لله".
- حضرت المسألة الاجتماعية في الفكر التجديدي للدكتور الترابي وكان عنوانها الأبرز موضوع المرأة، وكان الشيخ أصيلا وعميقا فيما قدم وطرح، أصل قبل أن يفتي، وجاء بالدليل قبل أن يفاجئ بالجديد، وتلك مسألة غابت عنه في مواضيع ومناسبات أخرى فشانه ذلك وأضرّ به..
في رسالته القيمة "المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع" وبعد أن استنطق نصوص القرآن والسنة المؤسسة لنظرية تحرير إسلامي للمرأة (سيأتي لاحقا د. عبد الحليم أبو شقة ليزيد ويعمق ويشفي الغليل في كتابه الكبير "تحرير المرأة في عصر الرسالة") وبعد أن أوضح المفارقة بين النصوص الشرعية وواقع المرأة في مجتمع المسلمين قدم تصورا لنهضة المرأة التي غزتها سلوكيات الآخر وأضرّها "تشييء" المجتمع لها فأصبح "أكبر همها هو تحقيق أنوثتها لا تحقيق إنسانيتها" على لغته، وأوضح أن الثورة على الأوضاع النسوية التقليدية واقعة حتما، ودعا الإسلاميين إلى فهم ذلك وخاطبهم:
"وليحذر الإسلاميون أن يوقعهم الفزع من الغزو الحضاري الغربي والتفسخ الجنسي المقتحم في خطأ المحاولة لحفظ القديم وترميمه بحسبانه أخف شرا وضررا، لأن المحافظة كما قدمنا جهد يائس لا يجدي، والأوفق للإسلاميين أن يقودوا هم النهضة بالمرأة من وحل الأوضاع التقليدية لئلا يتركوا المجتمع نهبا لكل داعية غربي النزعة يضل به عن سواء السبيل مستظهرا بتبرم الناس من جنوح أوضاع المرأة وباتجاهات الحياة الحديثة ـ فضلا عن أن الدين يقتضيهم ابتداء أن يكونوا أئمة هدي ينقذون الناس من كل ضلال قديم ألفوا عليه آباءهم الأولين ويعدلون بهم عن كل بدعة محدثة".
وقدم الترابي قراءة مستوعبة للفروق بين الرجال والنساء واضعا لها في إطارها واصفا لها بأنها: "مفاضلات درجية وظرفية ما هي بمفاصلات قاطعة بين الرجال والنساء".
وخلص إلى ما يريد في مذكرته غير المشهورة "الأنثى والذكر ومثال الحياة":
"وترقى حياة النساء المسلمات مع شقائقهن الرجال صادقات في العبادة والذكر، صالحات في العمل والخلق، صابرات في البلاء والجهاد، برات في الأسر، باحرات في العلوم، بارعات في الفنون، داهمات في المجتمع والمعاش، داعيات إلى الخير والعدل، دارجات مع الرجال رقيا إلى الله زلفى، والحمد لله رب العالمين".
- وليس بعيدا من موضوع المرأة جاءت أطروحات الرجل في رسالته المشهورة (أصلها محاضرة في مسجد جامعة الخرطوم) "حوار الدين والفن" والموضوع من محظورات التناول حينها وكل حديث فيه مثار ريبة واتهام، أدرج الشيخ حديثه في إطار ثنائية التوحيد والتجديد، يربط الأساس بالأول ويفكر في التفاصيل بمنطق الثاني.
واعتبر مسعى: "عزل لهو الفن عن وقار الدين" قديما وأن النبي صلى الله عليه وسلم رفضه ابتداء داعيا الأحباش "دونكم يا بني أرفدة"، وفي نص بالغ الإحكام جميل المبنى ربط الترابي الفن بعقيدة التوحيد معتبرا أن: "رجاء الجمال ونعيمه في الآخرة داع آخر من دواع العبادة لله فالعبادة ذاتها هي حالة من الجمال لأن فيها اتساقا مع حركة الكون العابد الساجد وجزاؤها الوفاق جنة مثلها".
والصلة محفوظة في تاريخ النبوة: "هكذا كان داود بمزاميره وتراتيله في الزبور يبلغ مدى الإحسان فتتجاوب معه الأصداء وتأنس به الطيور (يا جبال أوّبي معه والطير) "( سورة سبأ، الآية 10)
بل إن التدين يوسع من آفاق الفنان ويعطيه مددا: "فالتدين ينفع الفنان لأنه كما قدمنا عمل رمزي يؤمن إلى مثال كمال ويهب الفنان مددا روحيا لرمزية أوسع من خيال كل فنان لم يعرف الله".
لقد أطر الترابي المسألة الفنية وطرحها بأسلوب جديد وكان لذلك ـ كما نعلم ـ أثره في حضور الفنون في أداء إسلاميي السودان بل آخرين ممن تأثروا بهذا الطرح وأنزلوه منزلته.
- كما أشرتُ سابقا حكمت ثنائية التوحيد والتجديد فكر الشيخ الترابي كله ولكن موضوع التجديد كان بارزا في أطروحاته حول "تجديد أصول الفقه" و "تجديد الفكر الإسلامي" و "الدين والتجديد".
وإن كان الاختصار والاكتفاء بالإشارات والملخصات حد من قيمة إضافاته في مجال تجديد أصول الفقه لأنه مجال علمي مركب يحتاج وقتا وتوسعا، وهو ما يبذل فيه آخرون جهودا أهم وأكثر تخصصية (مثل د.أحمد الريسوني وغيره) فإن الأفكار العامة التي طرحها كانت تأسيسية في مجال التجديد بصفة عامة، حيث وضع الأمر في سياقه: "والحق في تصور الدين أنه توحيد بين شأن الله وشأن الإنسان في الدنيا، بين المطلق الثابت والنسبي المتحول ويكمن البلاء المبين في المفارقة الدائبة التي تطرأ بين الحق الأزلي والقدر الزمني، ويكمن الموقف الديني في التزام التكليف الشرعي بمجاهدة تلك المفارقة حيثما طرأت ومحاولة تحقيق التوحيد في كل حال".
ثم أوضح قضايا فقه الدين في ترتيب عميق ومكثف ليخلص إلى ضبط العلاقة بين الموجهات الحاكمة والأشكال غير الملزمة: "ومن أعسر قضايا فقه الدين إدراك ما هو مقصود بغايته وصورته أيضا ـبالنية والشكل معاـ من مظاهر التدين التي جاء بها النموذج الشرعي عهد نزول القرآن وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاءت فيه الصورة عرضا غير مشروطة بذاتها على التأبيد بل لكونها وسيلة التعبير المتاحة في تلك البيئة الأولى عن مقصود الشرع".
وفي كراسه "الدين والتجديد" قدم الترابي بساطا نظريا محكما يطرح أسئلة وإشكالات، ويضع أطرا وكليات ستظل ـ فيما أقدر وأحسب ـ من أهم الأطروحات المؤسسة لنظريات التجديد.
وفي التباين الذي حصل بين أهل الدين وأهل السياسة كتب الترابي، بل إن رسائل عديدة (جمعت في كتاب له بعنوان في الفقه السياسي) تناقش هذه المعاني وتوضح مقاربات ـ مثل سابقاتها ـ مركزة وفيها جدة حول أصول النظام السياسي وقضايا الحرية والوحدة والشورى والديمقراطية والوجدان والسلطان ونحو ذلك مما رآه الرجل محاولة لإعادة المصالحة بين الدين والسياسة اللذين عرفا انفصاما وتباعدا عطل تطور الفقه السياسي واهتمام العلماء به، وهم الذين وصلوا مرحلة وصفها الترابي قائلا إنهم انصرفوا: "بغالب همهم عن شؤون السياسة التي لا يذكرهم بها مستفت أو سائل، ولا يرعى حدود توجهاتهم فيها منقلب أو ثائر، وبذلك عكفوا على جوانب الحياة الخاصة وصوبوا نحوها كل طاقاتهم الاجتهادية والعلمية".
- لقد كان الترابي سباقا في كل هذه المواضيع، وكان السابق بحق في هذا المنزع التجديدي الجريء.. تحفظ عليه البعض واتهمه البعض وزاد بعض المتحاملين ففسقوا وبدعوا.. ولم يساوم الترابي في أطروحاته تأصيلا وتأمينا مما فتح عليه بابا واسعا من النقد والمساءلة، ولكن الحقيقة أنه مع الزمن ومع دخول آخرين من أهل العلم والفكر على خط تعزيز وتأصيل أفكار وأطروحات الشيخ، أضحت معظم اجتهاداته في المجالات الآنفة محل قبول من قطاع واسع من حملة الفكر الإسلامي وناشطي الحركات الإسلامية الوسطية في العالم.
من خلاصة التجربة إلى الشروع في التفسير
ليس من السهل أن يكتب قائد حركة عن تجربتها وهو أمر عادة ما يحسنه آخرون ممن هم دونه في المسؤولية والحرج؛ وفي الحالة السودانية أحسن الدكتور حسن مكي في الشق التاريخي بكتابيه "الإخوان المسلمون في السودان" و"الحركة الإسلامية في السودان" وأكمله آخرون تفصيلا أو استنطاقا أو تركيزا على بعد من الأبعاد أو تمثيلا لطرف بعد المفاصلة (حالات د. عبد الوهاب الأفندي ود. التيجاني عبد القادر ود. محمد المختار الشنقيطي والمحبوب عبد السلام وعبد الرحيم عمر محي الدين...).
ومع ذلك كتب الترابي عن التجربة، ولكنه كتب عن الدروس وليس عن الأحداث وقدم الخلاصات ومناهج العمل ولم يهتم بأدوار الأشخاص ولا بتفاصيل المراحل، لقد أعطى في كتابه "الحركة الإسلامية في السودان.. المنهج والكسب والتطور" زبدة تجربتها بلغة واضحة تتيح لمن يريد أن يعرف كيف وبأي السبل والطرق وصل إسلاميو السودان إلى ما وصلوا إليه على مستوى نظام الجماعة، ومناهج التنظيم والانتشار، والتمويل والقيادة، وعلى مستوى النشاط في المجتمع إسرارا وإعلانا، نخبوية وشعبية وأساليب هذا النشاط وآليات العمل السياسي تعبئة ومجاهدة وتحالفا ومشاركة، وعلى مستوى الكسب الفكري والمنهج الإصلاحي.
من ناحية أخرى ظل الترابي ـ لمن يعرفه ويتابعه ـ مهتما بالقرآن الكريم، ويبدو أنه بعد فترة من المغالبات السياسية قرر أن يهتم بمشروعه التفسيري وحلقاته الأسبوعية الممهدة والتي أفرزت مجلدين في التفسير التوحيدي متوقفا عند سورة العنكبوت التي كان قد قرر أن تكون بداية المجلد الثالث، ولكنه ـ حسب ما سمعت من المحبوب عبد السلام ـ فوجئ بإطلاق سراحه من سجن أخير وقد أكملها فقرر ضمها للمجلد الجاهز.
وقد حدد الترابي سياق تفسيره، قائلا: "وينبغي على المسلمين أخذ القرآن بقوة وبيانه واضحا ليغالب الثقافة اللادينية المعاصرة التي أثقلت على الدين بدهرياتها ومشهوداتها القاصرة وعقلانيتها الباردة وغمرت ذكر أخرويات الغيب ومسموعاته وإيمانياته".
ولكن المطالع في المجلدين الصادرين حتى الآن لم يجد كلما كان يتوقعه وينتظره، ولعل السبب في ذلك هو أن تفسير الشيخ حسن لم يجد ما يقابل به عادة إنتاجه ومكتوبه من اهتمام ومتابعة ونقاش.
وأغرب الرجل
لقد اختار الترابي أن يثير عديد المسائل وقد أغرب ـ سواء بالنظر إلى المضمون أو صيغة التناول أو سياقه ـ في مواضيع حساسة منها الفقهي ومنها المتعلق بالغيبيات، بل القول إن هذا الإغراب أخذ مظهر الشذوذ في بعض الأحيان ليس مجازفة ولا مبالغة..
الغريب أن الرجل حين أراد أن يتناول أمور التجديد الديني أو قضايا المرأة أو الفن أو أصول الفقه السياسي، كتب وحاضر بروية وتركيز وترتيب.. ولكن حين تناول الأمور الأكثر حساسية وإثارة اكتفى بالتعليق العابر والفتوى الصادمة مع شيء من السخرية لا يليق بالمواضيع المطروحة ولا بالخصائص النفسية والشعورية لجمهور المخاطبين.
إن تناول الترابي لقضايا مثل نزول عيسى عليه السلام وظهور الدجال وعذاب القبر وإمامة المرأة للرجال وزواج المسلمة من الكتابي أو بقائها معه.. إلخ، جاء في محاضرات عامة وبطريقة مختزلة. صحيح سيأتي د. محمد المختار الشنقيطي لاحقا لمناقشة أغلب هذه القضايا ويصحح بعض ما نسب إلى الرجل ويفسر ويشرح بعضا آخر وينتقد ويخطئ بعضا ثالثا.. أحسب أن الشيخ حسن الترابي في هذه القضايا أخطأ من ثلاثة أوجه:
الأول: أن كثيرا من هذه المسائل لا يترتب عليه شيء في واقع الناس، ونقاشه ـ إن كان لازماـ مكانه بين أهل الاختصاص والاهتمام وبعد البحث والتحقيق.
الثاني: أن أفكارا مهمة ـ أشرتُ إلى أغلبهاـ تنتمي للمشروع التجديدي للرجل تضررت من هذه القضايا، فربط بين الجميع من أراد رد الجميع، واعتبر خطأ الأخيرة دليل على خطأ الأولى.
الثالث: أن مثل هذه الأطروحات المخالفة لما عرفه الناس واستقر عندهم وعند كثير من علمائهم تحتاج تفصيلا واستدلالا يُقنع أو يُسكت أو يفرض إنصافا في الحد الأدنى، وهو ما غاب في محاضرات الترابي ذات الصلة، حتى وإن لم يكن جازما صريحا في بعضها.
قاعدة الذهبي ومكانة الترابي
لقد وضع الإمام شمس الدين الذهبي قاعدة جليلة للنظر للعلماء والأئمة ـونحسب صاحبنا ذا كسب مقدر من العلم والقيادة والإمامةـ قال فيها: "لو أخذنا بزلة كل عالم وغلطة كل إمام لم يبق لنا أحد ولم يسلم لنا إمام".
نعم.. إن للترابي إغرابا وربما شذوذا، ولكن له مع ذلك وقبله وبعده كسب علمي وتجديدي كبير، وكسب عملي واسع لا يستساغ ولا يقبل أن يزهد فيهما بحكم هذا الإغراب أو ذلك الشذوذ.. لقد مر الرجل في دنيانا، جاهد وشارك وكتب وحاضر وصبر واحتسب وجدد وراجع.. لقد مر وترك عظيم الأثر، لقد أنبت الكلأ والعشب الكثير فكان أفضل من الأجادب وكان بعيدا من القيعان.
ختاما.. للسياسة أحكامها
لا أهتم بتبرير السلوك السياسي للدكتور الترابي، ولا يلزمني أن أبحث عن مسوغات حلفه وأصحابه مع جعفر النميري ـ مع أن البعض يرى أن السياسة بنتائجهاـ ولست في وارد شرح الظروف والدواعي التي ساقها الشيخ حسن وإخوانه للقول بشرعية انقلابهم في يونيو/حزيران 1989 وحديثهم عن شرعية الاضطرار لا شرعية الاختيار.. ولكنني أعرف أن للسياسة أحكامها التي ستغير بعض الخلاصات الصارمة والأغلفة الأخلاقية المغلقة السائدة في أوساط الإسلاميين ومفكريهم.
إن القول بضعف المبدئية عند الترابي وأصحابه واتهامهم بالرخاوة الأخلاقية في مسيرتهم مبالغة لا تناسبغرد النص عبر تويتر، وحكم فيه من القساوة بعضها، وعموما فإنه مفهوم أن يظل المفكرون في مستوى مقدر من المثالية سيتعرض أصحابه لبعض الصدمة عند الاحتكاك بعالم التطبيق وواقع التنزيل.
أدرك ما لِخطاب المبدئية والتشبث بالأصول والبعد عن الازدواجية وأسر واقعية السياسة من أهمية خصوصا معنا معاشر السياسيين، ولكنني أعرف أن للسياسة أحكاما وإكراهات لن يقدرها حق تقديرها إلا من رأى وعايش وعاين، ومع ذلك يبقى المسار السليم والمطلوب هو أن نجعل من الحركة الإسلامية إطارا مبتغاه دولة الحق والحرية، ويكون فيها حاكما بالقانون ومحكوما به على لغة الشنقيطي.
لقد غضب الإسلاميون السلفيون من الشيخ الترابي لأنه فضل الإيمان على العقيدة، ومنهج السلف على حرفية أقواله.
- وغضب الإسلاميون التقليديون من الشيخ الترابي لأنه لا تأسره القوالب ولا يرضى لعقله التقليد والتبعية.
- وغضب الإسلاميون التربويون من الشيخ الترابي لأنه خالف معهودهم في التربية، واعتبر الحياة العامة ومجاهداتها أهم وسيلة للتربية والتأهيل.
- وغضب الإسلاميون الخائفون من الشيخ الترابي لأنه مؤمن بالانفتاح على العالم، مدرك أن كسب البشر للعبرة والدرس.
- وغضب الإسلاميون الديمقراطيون من الشيخ الترابي لأنه حالف الاستبداد وخطط للسلطة بالانقلاب. وفي كل ذلك كان يفسر بالاستثناء والاضطرار.
لقد توفي الشيخ الترابي ولكل هؤلاء فيه قول، ولكنه ـرحمه الله رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته ـ أثر في كل هؤلاء.
المصدر : الجزيرة