بلاد شنقيط بلاد المنارة والرباط وأرض المليون شاعر، وبلاد البدو العلماء الذين كسروا ولأول مرة في التاريخ قاعدة تناقض العلم والبداوة، وقد تحير أحد علماء الاجتماع من الفرنسيس في هذه الظاهرة الفريدة.
وقال: "لأول مرة في التاريخ يظهر مجتمع بدوي يكثر فيه العلماء الذين يدرسون علوم القرآن ومصطلح الحديث وفروع اللغة والتاريخ والمنطق والموسيقى".
ولا تستغرب إن قيل لك إن ناقة (المختار ول بونا) أو ناقة (سيدي عبدالله ول حاج إبراهيم) أو ناقة (محنظ بابا ول عبيد الديماني) هي عبارة عن جامعات متحركة وأنها تضاهي جامعة القرويين بفاس- وهي أول جامعة أنشئت في العالم الإسلامي – وتضاهي جامع الزيتونة بالقيروان، وتضاهي الجامع الأزهر بالقاهرة.. قال المختار ول بونا:
ونحن ركب من الأشراف منتظم أجل ذا الكون قدراً دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة بها نبين دين الله تبيانا
العالم التركزي الشنقيطي
ولكي لا يكون الكلام جزافاً أسوق لك بعض الأمثلة فإن ابن التلاميذ التركزي الشنقيطي ناظر علماء الأزهر وألقوا له السلاح وقد ذكره طه حسين في كتابه الأيام وقال إنه طلب من علماء الأزهر أن يجلسوا له جلسة التلاميذ، علماً بأن ابن التلاميذ هذا لم يكن في بلاد شنقيط بهذا الصيت والشهرة التي حققها في المشرق
وكذلك المجيدري ول حب الله اليعقوبي وقد بهر علماء الأزهر بقوة الحفظ والاستظهار، والمجيدري هذا جدته سودانية من بربر وقد زار السودان في زمن التركية.
وتحير علماء الأزهر في علم (القارعة السمسدية) وهي امرأة من بلاد شنقيط كتب عنها أحمد حسن الزيات في مجلة الرسالة.
وقد قال العلامة عبدالله الطيب المجذوبي: إن سبب النهضة الأدبية بمصر قدوم العلماء الشناقطة أمن الغرب.
وسئل العلامة محمود التيشيتي – وهومن شيوخ الإمام المهدي وكان المهدي يجله ويحمله على عنقه – سئل هل أعلم أنتم – أي الشناقطة - أم المصريين؟ فقال: إذا كانت الشموع متقدة فإنهم يتذاكرون معنا أما إذا اطفئت الشموع فهم بلا فائدة، قصد بذلك أنهم يعتمدون على الكتب والمراجع، بينما يحمل العلماء الشناقطة علومهم في صدورهم.
وذلك هو عين نعت الأمة المحمدية في العهد القديم (إنهم يحملون أناجيلهم في صدورهم).
سر العلاقة المقدسة
إن العلاقة بين بلاد شنقيط والسودان علاقة مقدسة أسست على التقوى، أسسها رجال في شموخ المآذن وإن كانوا من الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، وفي مقدمة هؤلاء الشريف الإدريسي سيدي محمد المختار التشيتي الشنقيطي ويعتبر هذا السيد ومعه الشيخ مولود فال الدغبي أول من نشر الطريقة التجانية في السودان.
والسيد محمد المختار هو صاحب كتاب الواردات، وهو عبارة عن (أمالي عرفانية) أملاها السيد على تلميذه الأديب والشاعر الفذ الشيخ عبدالرحيم الغبشاوي، وبعد موت الشيخ عبدالرحيم توافر عليها العالم الجليل الفكي حسن الجعلي الجودلابي.
وكتاب الواردات هذا من روائع الفكر الصوفي الإسلامي، ويمكن وضعه وبلا تردد في مصاف الفتوحات المكية للشيخ الأكبر ابن عربي، والإنسان الكامل للشيخ عبدالكريم الجيلي.
مقدمة الواردات الرائعة كتبها الفكي حسن الجودلابي، وقد راجع الكتاب العلامة السيد محمد الحافظ بن عبداللطيف التجاني المصري.
ومن مؤلفات هذا السيد – أي السيد المختار - مولده المشهور بمولد إنسان عين الكمال وهو من قلائده السائرات في الأرض، وله ديوان شعر يعرف بترياق الفهوم وله ديوان شعر كتبه بالعامية السودانية.
ومن تلامذة السيد محمد بن المختار العلامة القاضي أحمد قاضي المتمة والأديب الشعارة الشيخ عبدالرحيم الغبشاوي، ومنهم الشيخ محمد الخير الغبشاوي أستاذ المهدي ومن تلامذته الأعيان الشيخ سعد الدين الفلاني الملقب بسيبويه زمانه، ومنهم الشيخ الطاهر بن التلب الحيمادي والشيخ الهدي الشايقي.
وقد تتلمذ على هذا السيد رجال كان لهم أبعد الأثر في تشكيل الهوية الثقافية في السودان وقد ألمح إلى هذا الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم في ورقة كتبها عن دخول الإسلام في السودان وأثر الطرق الصوفية في دخول الإسلام.
علماء الشناقطة بالسودان
ومن علماء الشناقطة المؤسسين لهذه العلاقة المقدسة الشيخ محمد فاضل "ول" الخرشي المدفون (بأمات نواوير) من ديار الكبابيش، وقد كان العباسي - رحمه الله - يختلف اليه ويضرب له أكباد الإبل ويتذاكر معه العلم والأدب.
وداعبه العباسي مرة بقوله: "لماذا لا تأكل المرارة وهي حلال في مذهبك؟" - أي مذهب الإمام مالك - فرد عليه ولماذا تأكلها أنت وهي حرام في مذهبك؟.. وقد كان العباسي - رحمه الله - يتعبد بمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان.
ومنهم العلامة المتفنن الشيخ محمد السالك ول خي(دفين المزروب)، وقد تتلمذ عليه نخبة من العلماء الأجلاء، على رأسهم الولي الكامل والعالم العامل الشيخ عبدالباقي أبوه والعالم موسى عبدالمجيد الجامعي والشيخ عبدالرحيم البشير البزعي من أهل مليحة والشيخ عبدالرحيم ود وقيع الله المشهور بالبرعي... واستفاد منه غاية تلميذه ولزيمه الحاج الشيخ ود الزاكي.
وكتب عنه الفاتح النور في كتابه (التجانية والمستقبل) وأفرد له ترجمة وافية.
والشيخ محمد السالك هذا أخذ من كل فن بطرف، وله في النحو اليد الطولي، وقد نظم قطر الندى لابن هشام ونظم الأجرومية وأضاف أبياتاً لألفية ابن المالك، واستدرك على ابن قتيبة في أدب الكاتب.
ومنهم صاحب السر الجامع الشريف أحمد حماه الله صاحب كتاب فتح الرحمن – ترجم له الدكتور عمر مسعود في سياق كلامه عن الرجال الذين نشروا الطريقة التجانية في السودان وترجم له الصحفي البارع الفاتح النور ترير في كتابه التجانية والمستقبل.
ومنهم العالم الجليل والعبد الصالح الشيخ إبراهيم ول الطاهر تلميذ الشيخ محمد حبيب الله ول مايابي صاحب زاد المسلم – ولزيمه بالأزهر الشريف.
ومنهم عالم القضارف الأول في زمانه غير مدافع الشريف محمد الحبيب وكان يحفظ مادة الحطاب في الفقه المالكي وهذا من الأعجايب.
ومنهم عالم بارا وخطيبها المصقع محمد حبيب الله. ومنهم عالم نيالا الفذ (ول زيدان) ومنهم فقيه الأبيض النابه الشيخ الداه الشنقيطي صاحب التآليف المفيدة، ومنهم عالم سنار الشيخ محمد الأمين الشنقيطي وهو على قيد الحياة.
ومنهم محمد صالح الشنقيطي السياسي والقانوني المرموق وقد أوقف مكتبته العامرة على طلاب الدراسات العليا بجامعة الخرطوم وقد ترجم له الأستاذ محجوب باشري في كتاب رواد النهضة السودانية.
الطريق إلى المسجد الحرام
وقد مر كثير من علماء الشناقطة بالسودان ميممين شطر المسجد الحرام وفي مقدمة هؤلاء الولي الخطير والعلامة المتفنن الذائع الصيت الشيخ ماء العينين الحسني.
وقد ترجم له صاحب كتاب (طبقات المالكية) وترجم له الخليل النحوي في كتابه (بلاد شنقيط المنارة والرباط) وعدد له أكثر من مئة مؤلف في شتى الفنون، وفي طريق عودته من الحج صحبه الشيخ الريح السنهوري تلميذاً واللهيبه الكباشي ثم الربيقي خريتا وقد أقام معه هذان الرجلان حولاً بوادي الذهب من بلاد صحراء تيندوف..
أما الشريف الهادي الحسني شقيق الشيخ ماء العينين فقد أقام بالسودان وسكن بالشمالية وله فيها عقب، والهادي هذا قيل عنه أنه لو ألقيت كتب المذاهب الأربعة في البحر لأملاها من حفظه والله أعلم.
أما الشيخ مولود فال المعروف بـ(مفتاح الأقفال)، فقد مر بالسودان وزار الأبيض والتقى بالشيخ إسماعيل الولي المعروف بقنديل كردفان، وناوله كتاب جواهر المعاني لسيدي على حرزام براده فنظر فيه وقبله ووضعه على رأسه وتتلمذ على هذا الشيخ الجليل العلامة محمد ولد دوليب راجل خرسي، وينتظم في هذا السند أعلام في شموخ الأعلام، منهم العلامة ود الزاكي والشيخ محمد البدوي شيخ الإسلام والشيخ إبراهيم التليب، وإبراهيم هذا هو الذي رثاه العباسي بقصيدة طنانة وكتب عنه نجيلة تحت عنوان الشاعر المجهول.
وقدم إلى السودان في سياق هذه الرحلة الحجازية المقدسة الشيخ محمد المجتبى البوصادي وقد تتلمذ عليه الشيخ الفاتح قريب الله ود أب صالح الطيبي.
ومن علماء شنقيط بالسودان الولي الكبير وشيخ الطريقة التجانية الشيخ محمد سنموي دفين مليط وقد كتب له السلطان عبدالحميد فرماناً يأمر فيه بإكرامه أينما حل في الإمبراطورية العثمانية وقد لازم السلطان علي دينار في آخر حياته.. ومن تلاميذه الملك أحمد ايه ملك البرتي.
ومنهم العالم الجليل عبدالله بونا الناصري، كانت تتجاذبه المدامر بين "الكوكيتي" و"أبورقاشه" وود أقروب من ديار دار حامد وكان يحفظ طرة ول بونا على ألفية ابن مالك المعروف بالاحمرار وله المعرفة التامة بكتاب سيبويه الذي عده الإمام الذهبي من مفاخر دولة الإسلام..
وقد عمل الناصري هذا قاضياً للأحوال الشخصية ردحاً من الزمان بالكوكيتي.
ومن علماء الشناقطة الأجلاء الشيخ سيدي محمد ول فادوه الداودي وقد كان مبرزاً في علم الفرائض.
ومنهم العالم الجليل والراوية الثبت الشيخ محمد محمود التاقنيتي.
ومنهم الشيخ محمد عبدالله إسماعيل بمليط وكان يحفظ مختصر خليل والشيخ محمد محمود ول الجيلاني العلوي والشيخ سيدي أحمد العلوي ومنهم المحفوظ ول أبات من مقدمي الأغلال.
ومنهم الراوية السيري الشيخ محمد محمود الدلال.. ومنهم العالم الجليل الشيخ عبدالله محمد الأمين واشتهر بالعلم وتحفيظ القرآن.
شعراء الشناقطة بالسودان
ومن شعراء الشناقطة بالسودان الشاعر الفحل مولود ول ايجه صاحب قصيدة..
حلفت برب اليعملات الرواسم اصيلال دجن غب صوب العمام
يصف فيها رحلة بين أم بادر وأم قوزين على متون إبل عبدالله الخير العايدي.. وقد مدح السيد عبدالرحمن المهدي بقصائد جياد ومدح الملك عبدالعزيز آل سعود بقصيدة طنانة مطلعها:
قم ناج رسما محيلا لا ترى طللَهْ ولا حبيبا بأيام الصبا نزلهْ
ومن شعرائهم الشاعر الكبير مولاي أحمد عباس الملقب بـ"أبوسنينة" وهو الآن بنواكشوط، ورغم بعد الشقة وتطاول الزمن إلا أن حبه للسودان لم يتغير فهو يذكر السودان عامة وأحبابه الكبابيش خاصة:
لعمرك ما ينسى الكبابيش ماجد يقدر في الناس الحجا والمحامدا
وقوله:
إن أنسى لا أنسي مهما طال نسياني يا بن الكبير ليالي أمدرمان
ومن شعرائهم الشاعر الفصيح والعروضي الماهر محمد الأمين ول سيدي عبدالله البوصادي..
وزار بلاد شنقيط من علماء السودان شيخنا العارف بالله يوسف إبراهيم ولد بقوي الجعلي دفين "أم طلحة" ريفي المناقل في وفد من علماء التيجانية ضم مولانا الشيخ محمد طه التجاني والشيخ محمد الطاهر يوسف شيخ الطريقة التجانية بـ"أبوجبيهة"...
وجاب بلاد شنقيط الرحالة المعمر الشريف محمد أحمد أبو عبدالله دفين كوستي وقد ساح في أرض الحوض وكوش من بلاد شنقيط.. وزارها أيضاً البحاثة المرحوم الطيب محمد الطيب.
وزار بلاد شنقيط أديب السودان الفذ الطيب صالح وله إخاء مع بعض علمائها لعله ول الرابي وقد ذكره الطيب في بعض مقالاته وهو الذي أرشد الطيب صالح لشعر ذي الرمة غيلان... وقد كتبت بنت هذا الرجل مقالاً ضافياً في تأبين الطيب صالح نشرته جريدة الأحداث الغراء.
وكتب الطيب معلقاً على بيت المتنبي:
رمى الدرب بالجرد الجياد إلى العدا وما علموا أن السهام خيول
(والدرب هو الخط الفاصل بين العراق والشام أخبرني بذلك العلامة محمد سالم ول عدود).
محمد سالم ول عدود من أكابر علماء الأمة المحمدية في آخر الزمان وبموته فقدت موريتانيا عالماً قل أن يجود بمثله الزمان ولله ما أعطى ولله ما أخذ.
وقد بعث لي الدكتور خالد محمد فرح من داكار بمداخلات كتبها العالم الجليل الخليل النحوي تعليقاً على مقال كنت قد نشرته بالأحداث..
وأقول إنها لخدمة جليلة لأواصر الإخاء والعلاقات الثقافية المؤسسة على التقوى كما أسلفت بين السودان وبلاد شنقيط من يكون الخليل النحوي معنا على الخط وتلك لعمري صفقة حضرها حاطب وقام على أمرها سادن بيت الثقافة السودانية السفير خالد فرح..
وخالد الفحل هذا امتداد لجيل العماليق من أدباء الخارجية الأفذاذ الذين توافروا على الثقافة الجادة من أمثال المحجوب وجمال محمد أحمد ومنصور خالد وعلي أبوسن وغيرهم.
سل يا خالد الخليل النحوي عن الدكتور محيي الدين صابر؛ ذلك النوبي العربي الخزرجي وعن دوره في حماية آثار مدينة شنقيط التاريخية وما هي علاقته بسفره القيم "بلاد شنقيط المنارة والرباط"؟.
عموماً يعتبر الشناقطة خاصة والمغاربة عامة، من المؤسسين للهوية العربية الإسلامية بالسودان من لدن السلطنة الزرقاء، وقد كتب أحد الشناقطة كتاباً عن تاريخ الممالك السنارية..
وقد أشار صاحب التصانيف المفيدة؛ أستاذنا المرحوم البروفسير عون الشريف قاسم، في كتابه عن الحلفاية، إلى حلة الشناقيط ضمن مكونات الحلفاية. ولعل البروفسير عون كتب عن الحلفاية كنموذج لتكوين النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع السوداني، هذا النسيج الذي أشبه ما يكون بجبة درويش يطوي قلبه على المحبة ويؤمن بوحدة الوجود.
وكما قال الشاعر ول أحمد يوره:
كتبنا لكم بعض المرام وبعضه
مخافة تطويل عليه نلخخ