الترابي والعلواني / د.السيد ولد اباه

اثنين, 2016-03-14 10:04

عبد الله السيد

آخر مرة قابلت فيها الشيخ طه جابر العلواني كانت في مسقط قبل سنوات، سهرنا على هامش إحدى الندوات العلمية، ووجدته شديد الإحباط والقلق من مصير ما دعاه بالمشروع الإسلامي في بعديه السياسي والفكري.

لقد اعتبر العلواني أن مدرسة «الإخوان»، التي اقترب منها في شبابه، فشلت فشلاً ذريعاً في أي من أهدافها المعلنة: تجديد الدين، وبناء الدولة «الإسلامية»، وظهر له أن مشروع الإسلام السياسي كله أصبح متجاوزاً، ولم يبق للمشتغلين في الفكر الإسلامي إلا أن يشرعوا في المهنة العاجلة التي تتطلبها إعادة بناء المنظومة الشرعية في مقوماتها العقدية والأصولية والفقهية.

العلواني تحدث بالمرارة نفسها عن تعطل مشروع «إسلامية المعرفة» الذي كان أول من تبناه برنامج عمل في معهد الفكر الإسلامي بواشنطن الذي كان من مؤسسيه، ولم يكن حديثه عن أسباب إخفاق المشروع مقنعاً بالنسبة لي، لأَنِّي اعتبرت أن الخلل في الرؤية والمنهج، وليس التطبيق.

ورغم أن العلواني فَقِيه ضليع وأصولي متمكن، فإنه بقدر ما لم يرض دعاة الأيديولوجيا الدينية من «الإخوان» وغيرهم، فإنه لم يرض عموم الفقهاء من أصحاب الدراسات الإسلامية الكلاسيكية بآرائه الجريئة التي اشتهر بها، ومنها موقفه من «حد الردة» في كتابه «لا إكراه في الدين» الذي بين فيه أن المقصود بالعقوبة هو الخارج على الجماعة وحامل السيف المهدد لأمن الدولة، وليس مجرد المتخلي عن الدين الذي لا إكراه فيه أصلًا.

وللعلواني رأي مفصل في العقوبات الشرعية لم يكن يجهر به كثيراً، شرح لي بالتفصيل أن ما يسمي بالحدود هي عقوبات قصوى رادعة وليست أحكاماً ميكانيكية للتنفيذ، يمكن في الحالات الاستثنائية اللجوء إليها، لكنها لا تطبق في غالب الحال، مستشهداً بشيخه الفقيه الأزهري الأشهر «محمد أبو زهرة» في القول بنسخ حد الرجم بالجلد.

بين الشيخ العلواني والسياسي والفقيه السوداني حسن الترابي، اللذين رحلا هذا الشهر، سمات كثيرة متشابهة في الشأن الفكري، وإن اختلفا في طبيعة التجربة السياسية. فرغم أن الترابي قانوني التكوين الأكاديمي، فإنه اشتغل بالعلوم الشرعية، تفسيراً وأصولًا، وكان له منذ بداية الثمانينيات رسائل وكتيبات في تجديد أصول الفقه وتأصيل الفن والتحرير الإسلامي للمرأة، أثارت وقتها جدلاً واسعاً في صفوف تيارات الإسلام السياسي التي وجدتها شاذة وجريئة، وقد زادت جرأة الترابي في الفتوى والفقه في السنوات الأخيرة بآرائه حول إمامة المرأة للرجال وجواز زواج المسلمة من الكتابي.

في المجال الأصولي والتأويلي، تقاربت أفكار الترابي والعلواني، خصوصاً في منطلقهما الأساس الذي هو تجاوز المنظومة الأصولية الكلاسيكية التي جمدت على القياسات الشكلية الصورية والمذهبية الضيقة، فذهبا إلى محاولة صياغة جديدة للأطروحة المقاصدية ونظرية الضرورات الخمس، ودعيا إلى التوسع في آليات الاستحسان والاستصحاب، بيد أن هذه الآراء ظلت متناثرة أولية لم تصل إلى مستوى النظرية التجديدية الحقيقية لأصول الفقه، على غرار المقاربة التجديدية الشاملة التي بلورها في السنوات الأخيرة العلامة عبد الله بن بية الذي كان العلواني يعول على جهوده كثيراً في سد ثغرات المشاريع الاجتهادية الراهنة.

وفي كل الأحوال، كانت كتابات العلواني والترابي الفكرية والفقهية صادرة عن وعي جوهري بأن تيار الإسلام السياسي المتفرع كله عن «الإخوان»، ظل ضحل الإنتاج العلمي وضعيف الإبداع الفكري، ومن ثم كل إخفاقاته وهزائمه.

بيد أن ما يميز الترابي أساساً عن الفقيه العراقي هو تجربته السياسية المثيرة والمأساوية على طريقة التراجيديا اليونانية. لقد شكل الترابي جزءاً أساسياً من المشهد السياسي السوداني منذ سنوات الاستقلال الأولى إلى رحيله، وانتقل مرات عديدة ما بين موقع الشريك في الحكم وصاحب القرار إلى موقع السجين، وَقاد الانتفاضات الشعبية ضد الحكومات العسكرية باسم الديمقراطية، متحالفاً مع أقصى تشكيلات اليسار واليمين إلى الإسهام في الانقلاب العسكري على الديمقراطية الوليدة الواعدة (1968-1989).

حارب الترابي الرئيس الأسبق جعفر النميري، وتحول في آخر عهده إلى أقرب مستشاريه، وشارك في قراراته المثيرة المتعلقة بأسلمة القوانين، كما تقاسم السلطة مع الرئيس الحالي عمر البشير وأراد تحويل السودان في أيام «ثورة الإنقاذ» إلى نمط من كوبا العربية المسلمة، بحيث تكون كعبة كل التنظيمات الراديكالية الدينية والقومية قبل أن تقع القطيعة بين الفقيه السياسي والضابط الرئيس، فيرجع الترابي إلى مواقفه التحريضية، ويتحالف مع الجماعات الانفصالية الجنوبية، التي طالما حاربها، ويتحول إلى مكون أساسي من مكونات جبهة المعارضة المطالبة بالتغيير الديمقراطي.

لم ينجح الترابي الفقيه ولا الترابي المناضل في مساره العلمي السياسي، رغم مؤهلاته البارزة، بيد أنه طبع المشهد السياسي السوداني طيلة نصف قرن، أما العلواني فانتهى به الحال إلى عزلة اضطرارية في القاهرة بعيداً عن بلاده التي كان يتألم في سنوات عمره الأخيرة حسرة على ما أصابها من فتنة أهلية وحرب طائفية بغيضة ومدمرة.

الاتحاد