اعتاد الناس في نهاية كلِّ عامٍ أن يتذكروا شخصيةً أو حَدَثًا؛ فيقولون: الذكرى السنوية لكذا، ولكن ما عساهم أن يعبروا عن الذكرى اليومية لشيخي ومعلمي سماحة الإمام محمد الحسن الددو الشنقيطي؛ لأن ذكراه كل يوم في نفسي، ودعاء الله له كل يوم على لساني؛ فكم ذكرى يومية ستكون خلال صحبته مدة خمسة وعشرين عامًا؟.
سماحة الإمام محمد الحسن الددو، إمام العلوم الشرعية في هذا العصر، فلم تر عيني، ولم تسمع أذني، ولم يطمئن قلبي، ولم يدرك عقلي أكثر منه علمًا وفهمًا لعلوم الشريعة بكل تفاصيلها، وعلوم الآلة بكل دقائقها العلمية والاجتماعية والجدلية؛ فضلاً عن التاريخ والحضارة.
لقد حضرت المجامع والمجالس الفقهية، وقابلت أكابر العلماء في أربعة عقود مضت؛ فلا والله ما وجدتُ في أحدٍ منهم، ولا في مجموعِ عددٍ منهم ما لدى سماحته مما آتاه الله تعالى، وفتح عليه به، وملَّكه إياه، ومكَّنه منه.
والحمد لله أن من طبيعتي وتكويني وإدراكي عدم التعصب للأشخاص فضلاً عن تقديسهم؛ ولذلك أقولُ بكلِّ يقيني ووعيي إن هذا الإمامَ حجةُ الله تعالى على خلقهِ اليومَ في تبليغِ العلومِ الشرعيةِ للأمة على منهاجِ اللهِ ورسولهِ.
لقد عايشته خمسة وعشرين عامًا، ولا أعلم -والعلم عند الله- أحدًا لازم كلَّ ما قاله في دروسه ومحاضراته؛ فتتبعها ونقلها للنسخ والقراءة التامة الفاحصة، والمراجعة الدقيقة، كما لدي أنا العبد الضعيف.
وأشهد الله تعالى أنني سألته في أصعبِ الأسئلةِ وأعقدِها وأكثرِها استشكالاً وحيرة في جمع النصوص وتفسيرات الأقوال ومخارج الإشكال؛ فكان جوابه فيها حاضرًا وسلسلاً ومبهرًا.
بل كنت أضع في دفترٍ عويصاتِ المسائل في علوم مختلفة وأسأل عنها الجهابذة؛ فلا أعدم منهم رأيًا مقبولاً، مع بعض الثغرات والتحير في أخرى، لكنني أجد عنده الكفاءة والمهارة والفتح وأعاجيب الاستدلال.
لقد ظنه بعض طلبة العلم الأكفأ في عصره في الحفظ لدواوين العلوم بكافة تصنيفاتها، لكنني أقول لهم: بل إن كل محفوظاته تُعدُّ أيسرَ بكثير من عجيبِ استدلالاته ومناقشاته لأقوال الأئمة وتمحيصها والتعقيب عليها.
ومن فتح الفتاح عليه أنه يلبي طلب إلقاء الدروس في ثلاثين عِلمَاً من أي كتاب تريد، وفي أي فن تختار، ولا يحتاج كل ذلك -مهما بلغت صعوبة تفكيكه وعمق مضمونه- إلا أن تقرأ على الشيخ ما اخترته؛ ليغرف لك من واسع الفهوم، دون سابق معرفة بالموضوع والكتاب.
إن هذا بيان كافٍ بأن هذا الإمام حجة من الله تعالى لمن عايشوه وعرفوه، ولك أن تقول سبحان من وهبه هذا الحفظ كله!! في القراءات، ودقائق التفاسير، وفقه المذاهب، وروايات الأحاديث، وشروح المحدثين، وأخبار السيرة، وأنساب الأقوام، وتواريخ الأمم، وشعراء الجاهلية وصدر الإسلام ومن تلاهم إلى المعاصرين، وعلوم اللغة والعَروض، مرورًا بالمناظرة والمنطق .
ومع ذلك فعليك أن تقول سبحان الوهاب!! وأنت تسمع روعة الجمع بين المسائل، ودقة الفهم والفتح لمغاليقها، والبراعة في تمام تصورها، واستحضار مواقعها، وحسن ترتيبها.
بل لك أن تطرب لأشعاره البديعة، وتفسيراته للرؤى العجيبة.
وفوق كل ذلك بل الأهم منه التواضع الآسر، والخُلق الجم، والاحترام العظيم للصغير والكبير، واللين مع المحب والمختلف، وطول الأناة، والحلم، والصبر، والابتسامة الدائمة، والكرم الحاضر، والتودد الجميل.
فما سمعت في خمسة وعشرين عامًا -والله يشهد- كلمة ولا نصف كلمة خارج حدود الأدب على مخالف أو جاهل، ولم أسمع منه قط عبارة تخدش، أو لفظة تذم.
كما لم أره طيلة خمسة وعشرين عامًا في السفر والإقامة، وفي البيت والمسجد، والشارع والسوق، وبين الأهل والجماعة قد رفع صوته أو غضب مرة!
وأنا لا أزعم أنه ملك لا يخطئ، أو أنه غير بشر لا يزل، فقد ينسى أمرًا أحيانًا نادرة، وقد يرى رأيًا ويأخذ بغيره بعد مدة، أو يعتقد سواه، ولكنني أتحدث عن هدي ومبدأ وسلوك.
أما الحديث الخاص عن الصفاء والرقة والرحمة والخشية والربانية فشأنٌ آخر، لا أود التفصيل فيه لخصوصيته؛ ولكنني أشير إليه من طرف خفي.
فالشيخ نديم القرآن تلاوةً وتدبرًا، وسمير الليل قيامًا وتهجدًا، وسريع الفيئة خشية ورقًة، وكثير التصدق قلة وكثرًة.
وبعض هذه المناقب تدلك أن هذا الجبل العملاق، والبحر الزخار، والمنبع المدرار، من نعم الله تعالى، وقد قلت مرارًا: سبحان من جعل في كلام الخلق أُنسًا بالخالق.
إن الحديث عن سماحة الإمام محمد الحسن الددو الشنقيطي لا ينقضي منه العجب، ولا تسدُ الكتابةُ عنه الأرَبَ.
وسيخرج بحول الله كتاب تفصيلي منهجي بحثي في سيرته وعطائه وآثاره، شارك فيه كوكبة من خيرة العقول المسلمة، من كل أنحاء العالم.
وما فيه هو شيء قليل مما فيه! لا يوفيه مناقبه ومآثره.
وأؤكد القول أنني رغم ما قلت قد أكون ناقشت شيخي الإمام في بعض المسائل التي لا تعدو أصابع اليد الواحدة، ولي فيها رأي مختلف، لا تعاليًا ولا مزايدةً، وما رأيي إلا وجهة نظر مختلفة، وإن كان الأحب إليَّ ألا أخالفه، كونها مسائل محدودة، يسعها الاختلاف، وللشيخ أدلته الحاضرة الوافية، وفهومه الواعية.
ومن خلال هذه الرحلة (ربع قرن) مع سماحته؛ فمن حق من يحب الشيخ ويعرف صلتي اللصيقة به أن يعلم مني:
- أن سماحة الإمام قواني في تعميق المسائل التي أطلت النظر فيها، ببراهينه وحججه المتكاملة.
-أن سماحته أتمَّ كل خلل، وسدَّ كل ثغرة، كانت بحاجة لنظم الفهم وتكامل المعنى، وهذا رسّخ الوعي، ومتّن المنهج، ونوّر الطريق كاملاً.
-أن سماحته فتح نوافذ المسائل بأحجامها وأبعادها؛ مما أسهم في تجديد غير مسبوق لفهم النصوص ودلالاتها، وما ينبني على ذلك من إسقاطات وتنزيلات، مما يعد فتحًا وتجديدًا.
-أن سماحته ركّزَ منطق هذا الدين في نفسي؛ فلم يعد في طريقي ما أستشكله بفضل الله؛ حيث لديه قدرة خاصة على إبراز تكامل نصوص الوحيين، مما يذهب أي تعسر في الفهم، أو التوفيق والتبيين.
وبعد؛ فإنني أحمد الله تعالى على تفضله عليّ بهذه الصحبة والأخوة والتلمذة.
وأشكره على هذه النعمة الخالصة المقدّرة،
وأرجوه أن يديم نعمه في مرضاته، ويكافئ عبده شيخي محمد الحسن في قبول طاعاته.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وكتبه
علي بن حمزة العُمري
رئيس جامعة مكة المكرمة المفتوحة
رئيس منظمة فورشباب العالمية
٤:١٧ فجر السبت
١/ ٤/ ١٤٣٧هـ
من صفحة د.علي العمري على الفيس بوك