شكل إعلان التحالف العربي بمبادرة سعودية خطوة نوعية في التوجهات الإستراتيجية الإقليمية ، بعد فترة ضياع وتحلل عانى منها النظام العربي على اصعد ثلاث:
أولها : انهيار محور النظام الإقليمي مشرقا باندلاع الحرب الأهلية في سوريا اثر تعثر الانتفاضة الثورية التي بدأت سلميا قبل ان تتم عسكرتها ويتفاقم طابعها الدموي بفعل التدخل الخارجي ، زيادة على التأثيرات المستمرة للصراع الداخلي المتفجر في العراق.
ثانيا: انفجار موجة التطرّف الديني المسلح التي انتقلت من مرحلة الشبكات الإرهابية العابرة للحدود إلى مستوى التنظيم الإقليمي بمساحة جغرافية واسعة ونمط من الإدارة الحكومية والمليشيات المسلحة. الأمر هنا يتعلق بدولة داعش التي أعلنت على ثلثي مساحة العراق وثلث مساحة سوريا ، وأصبحت تشكل خطرا محدقا بأمن المنطقة كلها.
ثالثا: اختراق الأمن القومي العربي في معابره الحيوية الثلاث في البحر الأحمر (البوابة اليمنية) والساحل الأفريقي (خط نيجريا - مالي) والخليج العربي (من خلال الهيمنة الإيرانية على جنوب العراق وتهديد استقرار وأمن البحرين مع استمرار احتلال الجزر الإماراتية الثلاث) .
أمام هذا الانهيار المريع ، ومنذ وصول الملك سلمان بن عبد العزيز للسلطة في المملكة العربية السعودية بدأت تتبلور رؤية إستراتيجية سعودية ثاقبة وقوية تقوم على انتشال الأمن القومي العربي والوقوف ضد الإطماع الخارجية التي تهدد أمن المنطقة ،من خلال أربعة مبادئ مؤطرة وناظمة :
اولا: ترميم المحور الاستراتيجي العربي المتداعي ، بتفعيل المؤسسات الإقليمية القومية ( وفي مقدمتها جامعة الدول العربية ) وإحياء التنسيق بين الدول الفاعلة، ودعم الدول العربية الكبرى التي شهدت مطبات ومصاعب الانتقال السياسي بعد أحداث الربيع العربي.
ثانيا: كبح حركيّة تفكيك الكيانات الوطنية وإشعال الفتن الطائفية التي تغذيها المجموعات المتطرفة العنيفة ، وإبراز عوامل الوحدة العميقة للأمة الإسلامية بمختلف مذاهبها وطوائفها ، ورفض منطق التدخل الخارجي على أساس التأجيج الطائفي .
ثالثا: مواجهة الأطماع الخارجية بالوسائل العسكرية الناجعة في حال الضرورة ، وفق السيناريو اليمني الذي كان نقطة انطلاق إستراتيجية حاسمة لاستعادة استقلال ووحدة اليمن في مواجهة مغامرات العصابات الحوثية المدعومة إيرانيا .
رائعا: العمل على توفير غطاء دولي واسع وفعال للإستراتيجية العربية الجديدة، من خلال استثمار العمق الإسلامي للمنظومة العربية والاستفادة من شبكة المصالح والعلاقات الكثيفة مع القوى الدولية الهامة .
إن هذه المبادئ الأربعة هي التي شكلت فلسفة التحالف العسكري والسياسي العربي الذي أصبح حقيقة قائمة اليوم ، حقق نجاحات ميدانية ملموسة على الأرض في اليمن الذي هو في طور استعادة وحدته ودحر الأطماع الخارجية التي تواجهه ، وقد أصبحت لحكومته الشرعية سلطة القرار في جزء كبير من مناطق البلاد ، وتستعد قبائل الشمال وقياداته الأهلية للانضمام إلى خط التسوية الداخلية المدعوم عربيا ودوليا .
ومن الآثار الإيجابية لهذه الإستراتيجية التوافق القائم على المواجهة الحاسمة لتنظيم داعش وتحرير المناطق التي يسيطر عليها ومواجهة ذيوله الإرهابية في الداخل والخارج . في هذا الباب، نشير إلى المبادرة السعودية الأخيرة لبناء تحالف عربي دولي واسع تساهم فيه السعودية وغيرها من البلدان العربية في محاربة المليشيات الداعشية المتطرفة في سوريا والعراق ، مع الفصل الواضح بين التنظيمات الإرهابية والأطراف السياسية المؤهلة للمشاركة في حوار داخلي سوري لإخراج البلاد من محنتها الحالية التي من أسبابها الكبرى التدخل الخارجي الإيراني الروسي .
إن هذه المقاربة لكي تكون ناجعة لا بد أن تمدد إلى بقية الساحات الملتهبة والمتأزمة ، وفي مقدمتها في منطقتنا ليبيا التي تعددت فيها الإمارات الداعشية ومنها يتفاقم خطر الإرهاب الدموي التي تكتوي به يوميا العديد من أقطارنا منها على الأخص تونس التي شهدت في الأشهر الأخيرة عدة أحداث إجرامية فظيعة.
وباعتبار الترابط العضوي بين منطقة الساحل الأفريقي والمغرب العربي من جهة ومنطقة واد النيل من جهة أخرى ( عبر البوابة السودانية الصومالية) ، فان التهديدات الأمنية التي يعرفها هذا المجال الحيوي تضع على كاهل الحلف العربي مسؤوليات خاصة بعد أن وصل الحريق كل البلدان المطلة على نهري النيجر وتشاد وغدت الجماعات الإرهابية الساحلية تتشابك بقوة مع التنظيمات المتطرفة النشطة في جنوب ليبيا .
لا مندوحة من الإقرار أن مقاربة التحالف الاستراتيجي العربي أعادت الأمل إلى الشارع العربي المحبط الذي عانى في السنوات الأخيرة مرارة الخواء وانعدم الوزن ، ووقفت إمام معادلة إقليمية بدأت تتشكل معالمها الكبرى خارج الحسابات والمصالح الحيوية العربية .
والمطلوب اليوم هو الانتقال من مكاسب المبادرة الإستراتيجية إلى تجديد البناء الإقليمي العربي وتصحيح بوصلته القومية وإعادة العرب طرفا فاعلا في النظام الدولي الجديد. ولا شك أن تلك الرؤية هي الحاضرة اليوم بقوة في المشروع السعودي الذي قدمته القيادة الجديدة للمملكة إلى الأمة والشعوب العربية.