من أحمد سالم ولد باب (موفد "مراسلون" إلى السعودية)
لأنني مسكون بالتاريخ وجدتني أسأل نفسي عن شأن حفر الباطن (منطقة مناورات "رعد الشمال") في التاريخ: من سكنها من القبائل العربية؟ ومن ذكرها في شعره؟ ومن سار فيها؟ ومن أدلج ومن أَوّب؟..
تذكر المراجع أن منطقة "حفر الباطن" كانت من أرض بني العنبر بن عمرو بن تميم، وفيها كان يمر طريق حُجَاج بيت الله الحرام القادمين من العراق، ولأنها كانت أرضا قاحلة مجدبة؛ فقد شكا هؤلاء الجدب والعطش إلى أبي موسى الأشعري والي العراق حينها من قِبَلِ عثمان بن عفان رضي الله عنه، فحفر فيها آبارا عذبة بلغت خمسة في حدود العام الهجري السابع عشر.
أما العنبر بن عمرو بن تميم جد هؤلاء فأولاده اثنان، هم: جندب وكعب، وتسوق "مراسلون" في هذه الورقة طائفة صالحة من أخبارهم، لا تخلو من فائدة وطرافة، دلت على أنه كان فيهم بعض مشاهير الفقهاء والقضاة والصالحين..
فمن ولد جندب بن العنبر: الفقيه زُفَرُ بن الهذيل صاحب أبي حنيفة، وأخوه صباح بن الهذيل، وقد كان أبوهما الهذيل والي أصبهان لمروان بن محمد.
ومنهم أيضا: الناسك الفاضل عامر بن عبد قيس بن ناشب وهو الذي سَيَّرَهُ عثمان رضي الله عنه من البصرة إلى الشام.
ومن بني كعب بن العنبر: القاضي سَوَّار بن عبد الله بن قدامة، وكان جده قدامة بن عنزة من أعبد أهل زمانه.
ومن أخبار سَوَّار هذا أنه كان رحمه الله حليما، ومن حلمه: ما يحكى أن رجلا من الأعراب تقدم إليه في أمر فلم يصادف عنده ما يحب، فاجتهد فلم يظفر بحاجته، فقال الأعرابي - وكانت في يده عصا -:
رأيت رؤيا ثم عبَّرتُها |
|
وكنت للأحلام عَبَّارَا |
وجاءه أعرابي من بني العنبر فقال: إن أبي مات وتركني وأخا لي - وَخَطَّ خَطَّيْنِ في الأرض - ثم قال: وهَجِينًا (يقصد أخا لهم من أبيهم؛ أُمُّهُ أَمَةٌ) - وخط خطا ناحية - فكيف نقسم المال؟.
فقال سوّار: أههنا وارث غيركم؟. قال: لا. قال: المال بينكم أثلاثا. فقال الأعرابي: أيأخذ الهجين كما آخذ ويأخذ أخي؟. قال: أجل. فغضب الأعرابي، وأقبل على سوّار فقال: تعلَّم والله أنك قليل الخالات بالدهناء. فقال سوار: إذن لا يَضِيرني في ذلك عند الله شيئا.
(والأعرابي يقصد أن أُمَّ سوَّار أَمَةٌ؛ فقد قيل إنه ليس بالدّهناء أمة).
وقال أعرابي يمدحه:
وأَوْقَفُ عند الأمر ما لم يَضِحْ له |
|
وأَمْضَى إذا ما شَكَّ من كان ماضيا |
ومنهم: القاضي عبيد الله بن الحسن بن الحصين بن الحر؛ وَلِيَ جدُّه الحصين بن الحر ميسان أربعين سنة، وإلى صحبته ينسب فيروز حصين المشهور.
ومنهم المثنى بن معاذ بن معاذ بن نصر، كان من وجوه المحدثين، وأبوه وَلِيَ قضاء البصرة، ومات جده معاذ بن نصر في حياة أبيه سنة 119هـ، وترك ابنه معاذ بن معاذ صغيرا؛ ابن سنة أو سنتين، وكان اسمه المثنى فسمي معاذا باسم أبيه، وكان له ابن آخر؛ من كبار المحدِّثين أيضا؛ اسمه عبيد الله بن معاذ بن معاذ، روى عنه مسلم.
ومنهم: الخشخاش بن الحارث العنبري؛ له ولبنيه الثلاثة: مالك، وقيس، وعبيد صحبة. وقد وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكتب لهم كتابا. وَرُوِيَ عنه أنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعي ابني فقال: «لا تجني عليه ولا يجني عليك».
قلتُ: وقد ذكرهم صاحب "شرح عمود النسب" في بني العنبر بن يربوع من زيد مناة.
أما حال "حفر الباطن" اليوم فلعله لم يتغير من الناحية الجغرافية على الأقل، فهي لا تزال عذبة الماء، لطيفة المناخ في الشتاء والربيع، فلم تتجاوز درجة حرارتها حين زرناها اليوم (الخميس 10 مارس) 26 درجة، أما في الصيف فتتجاوز فيها الحرارة 50 درجة، وتجتاحها العواصف الرملية الهوجاء كما قال لي مرافقنا.
أما من ناحية السكان فذكر المرافق أنها لم تعد أرضا لبني العنبر وحدهم، بل كل القبائل تقريبا تسكن "حفر الباطن" اليوم: شمّر وحرب وعنزة... وغيرهم.
تشبه "حفر الباطن" إلى حد كبير بادية "تيرس" عندنا، فهي ذات مناخ جميل في الشتاء والربيع - خاصة إذا مُطرت - كما هو حالها في هذه السنة، ولهذا استحقت عن جدارة لقب عاصمة الربيع..
ورغم أن جزءا لا يستهان به من منطقة "حفر الباطن" يعتبر منطقة عسكرية مغلقة، إلا أن القوات المسلحة السعودية لا تمنع أصحاب الإبل من الانتجاع في المراعي الخصبة كما رأينا وأُخبرنا اليوم.