أُشْفِق على أقوام تَتَجارى بهم الأهواء السياسية والطائفية كما يَتجارى داء الكَلَبِ بصاحبه، فتحملهم على التشكيك فيما هو من الضروريات بالنسبة لهم ولعامة الناس؛ ويركبون تلك المراكب الصعبة وهم يعلمون في صميم أفئدتهم انهم ليسوا على شيء، !
من أغرب ما تناهي إلينا من ذلك محاولة بعضهم ربط الدعوة إلى الإصلاح والتجديد وفتح باب الاجتهاد التي عرفها العالم الإسلامي مؤخرا بأطروحات رجال المذهب البروتستانتي في الغرب ونظريات عصر الأنوار واعبتار حملتها يشكلون امتدادا لأفكار لينين وماركس ولوثر، سبحانك هذا بهتان عظيم !
إن للدعوة إلى الإصلاح والتجديد أصلا أصيلا في الوحي المقدس وفي التراث الإسلامي العريق، تجعل المهتم بها في غنى وكفاف عن الاقتباس من الغرب، ولم تخلُ الأرض عن قائم لله بالحجة وداع إلى الاصلاح والخير يوما من الدهر، كيف وقد وعدنا الصادق المصدوق بذلك فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها امر دينها"، وقال : " يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ , يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ , وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ , وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ". مع انها دعوة هؤلاء إلى العودة بالدين إلى مساره الأصلي وتنقيته مما علق به من أدران الزمن وممارسات المتديين، ودعوة أولئك الغربيين دعوة للانحلال والتخلي عن دينهم فشتان ما بينهما !
وليت شعري هل كان إمام الحرمين والشاطبي والقرافي وابن تيمية متأثرين بماركس في وضعهم لعلم المقاصد ودعوتهم إلى التجديد ونظرياتهم في السياسة والفكر ؟!
سبحانك هذا بهتان عظيم !
أعلم أن الشاطبي قد اتهم أيضا بأنه وضع الأساس لعلمنة الإسلام وأنه مبتدع ! مع انه أكثر علماء الإسلام تشددا في محاربة البدع والتحذير منها وفي ذلك ألف كتابه" الاعتصام بالكتاب والسنة" الذي طبعه محمد عبده ومحمد محمود بن التلاميد (تلامذة لينين المخلصون ! ).
وهل كان السيوطي يوم ألف كتابه: " الرد على من أخلد إلى الأرض وأنكر أن الاجتهاد في كل زمن فرض " متأثرا برجال البورتستانت لأنه درس في جامعة "كامبردج" والتقى بلوثر وماركس ؟ !
سبحانك هذا بهتان عظيم !
هل كان الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي المختار الكنتبي إمام الشريعة والحقيقة متأثرا بلينين حين دعا إلى التجديد، وتكلم على حديث " إن الله يبعث لهذه الأمة"... بكلام بديع يتقاطع مع أطروحات المفكرين الإسلاميين المعاصرين ؟! وهل كان والده متأثرا بأولئك في دعوته إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة وتقديم الحديث على آراء الرجال ؟!
سبحانك هذا بهتان عظيم !
هل كان الصاغاني المحدث اللغوي (544هـ ) مؤلف " مشارق الأنوار في غريب الآثار" متأثرا بمخرجات عصر " التنوير" في باريزفي القرن 19م،؟! وهل كان ابن العربي كذلك يوم ألف كتابه: " أنوار الفجر في تفسير الذكر" في 120 مجدا ، وقد تفرق كتابه هذا بايدي الناس ولم تجتمع منه نسخة معروفة غير نسخة كانت عندي السلطان أبي عنان المريني وأخرى كانت عن الشيخ سيدي أحمد البكاي بن سيدي محمد الكنتي ( كان حيا 911هـ) في ولاتة.
سبحانك هذا بهتان عظيم !
علمنا بذلك أن اعتبار كتاب الطاهر بن عاشور: " التحرير والتنوير"، " استدعاء واضحا لمفردات عصر التنور لأنه التقى بمحمد عبده في القاهرة" مجرد كلام ضائع، وأنه عنوان إسلامي عريق ، وليتنا نلج إلى ما وراء العنوان لنعلم أن ابن عاشور أتقن الفرنسية واطلع على الحضارة الغربية، وتأثر إلى حد ما بمناهج البحث الحديثة، وليس صلته بها نتيجة لقاء عابر مع محمد عبده ! ولكنه ظل مع ذلك محافظا متمسكا بالسنة إلى أبعد حد. فهو كمثل أئمة الإصلاح والتجديد فإنهم وإن أفادوا من مناهج البحث الغربية المأخوذة في أغلبها عن المسلمين أيام عزهم إلا أن لسان حالهم ظل يكرر:
عِداتي وصحبي لا اختلاف عليهم *** سيعرفني كل كام كان يعهد.
من صفحة الكاتب محمد يحيى ولد احريمو على الفيس بوك
والواقع أن الشيخ الطاهر ليس مثل حسن البناء الرجل الزاهد ذي المرجعية الصوفية الذي لم يدخل الغرب ولم يطلع كثيرا على تراثه !
آسف جدا لقد نسينا عنوان الإمام الغزالي : " إحياء علوم الدين"، فهو عنونا إحيائي أيضا !
هل كان الإمام المجاهد الحاج عمر الفوتي يوم سمى مدينة " قَبْ" في مالي: " مدينةالنور- انيورو" متأثرا بتسمية الفرنسيين لباريز مدينة النور ،مع أنه قد التقاهم في السنغال وجاهدهم؟!
نجن أولى بالنور والتنوير: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).
إن للتجديد والإصلاح كما أسلفنا أصلا أصيلا في تراث المسلمين، وفي نصوص شرعهم المحفوظة من التبديل، وقلما يوجد علم مشهور إلا وقد اهتم بأمره ما أمكن، وقد ادعى كثير من العلماء مرتبة التجديد او أدعاها لهم أتباعه، وإن كان بعض العلماء يشترط في المجدد الموعود على رأس المائة أن تصادف وفاته ما بعد تمام القرن الهجري بأعوام يسيرة لكي يكون موافقا للحديث وفي ذلك مبحث معروف، وقد تواطأ السلف على اعتبار عمر بن عبد العزيز مجدد المائة الأولى والشافعي في الثاينة، وادعى قوم ان الغزالي هو مجدد المائة الخامسة، لما له من دور في مزاوجة الفقه والتصوف والرد على الملاحدة، وممن وصف بالتجديد من علماء بلدتنا: الطالب محمد بن المختار بن الاعمش العلوي والشيخ سيدي المختار الكنتي، ومحمد بغيع عالم تنبكت، وغيرهم، وهذا غيض من فيض يبيِّن لنا أن علماء الإسلام في غنى عن استخدام أفكار ماركس ولينين في تجديد الدين، وأن الدين في غنى عن ذلك بكماله وعالميته وربانيته ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبير.
إنها أطروحات غريبة لا تقيم للمنهج العلمي وزنا، بل تستعيض عنه بالخيال الروائي والتداعي الحر، الذي يمكِّن الكاتب أن يقول كما يشاء دون دليل ولا برهان ! لكنه يعلم في قرارة نفسه أنه يخادع عقله، ويحتقر عقول القراء ، وأنه قد حرم الادب والموضوعية، فيما يكتب، وتلك لعمري نزعة استشراقيىة وخطة خسف وعبث تصلح للسمر واللهو ولا مكان لها في المطارحات العلمية والفكرية:
لَتَرجِعُنَّ أحاديثا ملعنةً *** لهوَ المقيمِ ولهوَ المدلجِ الساري
يمكننا أن نختلف سياسيا ولا نلعن أئمة الهدى،
المسلمين التوفيق والهداية.له