لا يبدو التصور الموضوعي لعصر الخلافة الراشدة واضحا في أذهان بعض المسلمين. فقد بدأت الخلافة الراشدة بمرحلة انتقالية وانتهت بأخرى. جاءت بيعة أبي بكر في ظروف خاصة اتسمت بالخلاف بين المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج، وبين الهاشميين، وبقية قريش.
ولم تحظ بيعة أبي بكر بإجماع فوري وإنما حصل الإجماع على التراخي، وساهم في حصوله مسارعة القبائل حول المدينة إلى إعلان ردتها. فانصاع أهل المدينة ومكة والطائف لخلافة أبي بكر لدرء الخطر الخارجي. وكأن الطامحين إلى الخلافة أجلوا طموحاتهم إلى أن ينتهوا من المرتدين، وبدا لهم أن قتالهم باسم الدين سيكون أبلغ تحت راية صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يستمد مكانته الرفيعة من الدين دون أن يكون له سند عصبي يستطيع الركون إليه للاستمرار في السلطة بعد الانتهاء من حروب الردة. بمعنى أن الجميع كانوا يعتقدون إمكانية استرجاع الحكم من الصديق بسهولة؛ إما بموته، فهو شيخ كبار، أو بعد انقضاء الفترة الانتقالية.
لكن الصديق، وعيا منه بهذه الرهانات، وحرصا منه على تماسك الدولة الإسلامية الناشئة، اختار الوصية لعمر بن الخطاب. وأمسك عمر السلطة بحزم وشدة، وتقاسم بعضها مع الطامحين إليها، وظل يراقبهم عن كثب، (حدد إقامة كبار الصحابة في المدينة) حتى إذا أصيب تركها شورى بينهم، مع تدابير تضمن سرعة الحسم في اختيار الخليفة. ثم انتهت إلى عثمان الذي آثر اللين على الشدة، فانتهى به إلى ضعف سلطانه، واستقلال ولاته، وبعض مقربيه بالأمر من دونه. ثم عادت الخلافة مع علي سيرتها الأولى؛ مرحلة مؤقتة يهدف الذين أسلموها إلى علي إلى استغلال اسمه ومكانته لتستقر أوضاع الناس ثم يتدبرون أمرهم.
لم يعد نظام الخلافة ممكنا بعد الثورة على عثمان. وإنما أصبح المجتمع في بنيته يسير حثيثا نحو نظام الملك السائد في المجتمعات التي انفتح عليها المجتمع الإسلامي الذي ما زال في طور التشكل. ولم تكن روح الملك بعيدة عن الخلافة أصلا في خلافتي عمر وعثمان وهما اللتان تمثلان استقرار نظام الخلافة بعد فترة الانتقال من النبوة إلى الخلافة، خلافة أبي بكر، وقبل فترة الانتقال من الخلافة إلى الملك؛ خلافة علي رضي الله عنه. فقد كانت هناك سلطة مركزية قوية تسير الأمور بطريقة المستبد العادل؛عمر في خلافته. وكانت هناك طبقة سياسية تحيط بالخليفة، وتعينه على تدبير شؤون الخلافة في حدود ما يفوضها من سلطاته الواسعة. أما عثمان فقد مال إلى اللامركزية، وتفويض المزيد من سلطاته إلى المحيطين به من الطبقة السياسية.
لقد اختلفت معايير "أهل الحل والعقد" في خلافة عثمان عنها في خلافة عمر. كانت المعايير العمرية معايير دينية صرفة، فكان كبار الصحابة أهل حله وعقده، وإن كان جل الحل والعقد في يده. ولم يكن بإمكان عمر اصطناع معيار آخر لمزاولة الحكم. فقد استلم الخلافة بعد حروب الردة ذات الطابع القبلي، التي تم إخمادها باسم الدين، ضدا على العصبية الجاهلية. ولم تكن لعمر عصبية قوية يستطيع الاعتماد عليها للاستبداد بالحكم دون بقية العصبيات.
أما في خلافة عثمان فقد استرجعت العصبيات بعض سطوتها، خاصة أن الصراع على الخلافة بين الهاشميين والأمويين اشتد أثناء مداولة أهل الشورى، لذلك بدت بيعة عثمان انتصارا للعصبية الأموية على العصبية الهاشمية. لهذا كان معيار الطبقة السياسية المحيطة بعثمان معيار عصبية. وبذلك انتقلت الخلافة من كونها وظيفة يشغلها الأكثر تأهيلا من الناحية الدينية؛ خلافة أبي بكر وعمر، إلى سلطة تتنازعها العصبيات؛ خلافة عثمان وعلي.
ربما لم يكن انتقال الخلافة من حال إلى حال بعيدا عن تأثير الدول التي كانت قائمة حول جزيرة العرب، والتي كان للعرب، قبل الإسلام وبعده اتصال بها. فقد كانت الإمبراطورية الرومانية إمبراطورية دينية يتمتع فيها رجال الدين بسلطات واسعة. ولما لم يكن في الإسلام تسلسل هرمي لرجال الدين، وكانت دولته ذات طابع ديني كان لا بد للمكانة الدينية من أن تكون على رأس المؤهلات المطلوبة في الممارسين للشأن السياسي. لذلك كانت خلافة أبي بكر وعمر، الأقرب إلى فترة النبوة ألصق بالمعيار الديني في تعاطيها مع الشأن السياسي، خاصة أن الشيخين لم يكونا من عصبيتين قويتين، وقد حارب الإسلام العصبيات ليوحد العرب في كيان سياسي واحد.
أما في خلافة عثمان فلم تعد العصبيات تمثل تهديدا للإسلام، وإنما أسس عمر لشرعيتها حين سمح لمن عاد إلى حظيرة الإسلام من المرتدين بالاشتراك في الجهاد، بعد أن منعهم الصديق، واختط ولاته المدن على ضوئها، وثبتها هو في ديوان العطاء، وعقدت القبائل ألويتها الخاصة في جيوش الفتح. عاد المجتمع العربي إذن إلى نظامه القبلي الذي تكيف مع الإسلام ليعود معيار العصبية إلى تحديد الطبقة السياسية التي تمارس السلطة. وهكذا أحاط بالخليفة عثمان أهل عصبيته، ليعود العرب إلى الاقتباس من الفرس بدل الروم، إذ الحكم في الفرس للعصبية.
تطورت الخلافة إذن إلى مرحلة الملك، ولم يمثل الملك قطيعة معها كما تحاول بعض القراءات السياسية المعاصرة أن توهمنا، بما تروجه من أن الملك بدأ مع بني أمية حين أصبح وراثة. والحقيقة أن الوراثة استخلاف، وقد استخلف الخليفة الأول. وحين أصيب عمر أشار عليه بعض من حضره باستخلاف ابنه عبد الله. فلم ير ذلك منكرا، ولا مخالفا لمقتضيات الخلافة الراشدة، وإنما قال: "يكفي آل الخطاب واحد." وأشرك ابنه في الشورى بصوت مرجح. فلو كان توريث الخلافة مخالفا للشرع ما تردد ابن الخطاب في بيان ذلك وقد واتته الفرصة مقبلا على الآخرة مدبرا عن الدنيا. وبخلاف ما يروج، لأغراض مذهبية، وأخرى سياسية، من أن معاوية أول من ورث الخلافة، لتنقلب بذلك ملكا، فإن شيعة علي رضي الله عنه هم أول من ورث الخلافة ببيعتهم الحسن بن علي. وقد استشاروا عليا في ذلك فقال: "لا آمركم ولا أنهاكم". ولو علم في ذلك انحرافا عن الخلافة الراشدة لما توقف فيه. والذي تزعم بيعة الحسن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري.
يعتمد أصحاب الفصل بين الخلافة والملك، وكأنهما نقيضين على الحديث المروي عن سفينة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنن، يحدد الفترة الزمنية للخلافة:" " الخلافة ثلاثون سنة ، ثم تكون بعد ذلك ملكا. " و لفظ أبي داود:"خلافة النبوة ثلاثون سنة ، ثم يؤتي الله الملك أو ملكه من يشاء." وهذا صريح في تطور نظام الخلافة إلى الملك دون وصفه بصفة العضوض. ترد هذه الصفة في حديث آخر مروي عن حذيفة. فقد روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه ، قال: كنا جلوساً في المسجد فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء، فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة.
فقال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت."
لكننا نجد في الصحيحين حديثا يعتمده ابن تيمية دليلا على جواز إطلاق لقب الخليفة على الملوك، وهو ما يعني عدم تناقض الصفتين أو تنافرهما؛ يقول ابن تيمية: "و يجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين خلفاء و إن كانوا ملوكا، و لم يكونوا خلفاء الأنبياء، بدليل ما رواه البخاري و مسلم في "صحيحيهما " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلفه نبي، و إنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا ؟ قال:فوا ببيعة الأول فالأول ، و أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم. "وبذلك تسقط دعوى من ينزعون الشرعية عن الملوك بدعوى أنه لم تتبع في توليتهم طريقة الشورى التي اختارها عمر، وإنما ورث كل واحد منهم الملك عن من سبقه دون استشارة الأمة. فقد صرح صلى الله عليه وسلم بصحة بيعتهم، فأمر بالوفاء بها، وإعطائهم حقهم على الرعية من السمع والطاعة، وسماهم خلفاء، وهو ما يعني أن شرعيتهم هي نفس شرعية الخلفاء الأربعة.
ويعزز الحديث ما نجده في القرآن حين الحديث عن داوود وسليمان. فقد آتى الله داوود الملك بدليل قوله تعالى:" فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ"(البقرة، 251 ). ثم يصفه القرآن بالخلافة:" يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض..." (ص:26).
ولو كان توريث الملك مما يطعن في شرعية الحاكم لما ورث داوود ملكه ابنه سليمان. قال تعالى:" ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين." ولو كان الملك في ذاته فاقدا للشرعية، لما ارتبط بالنبوة، ولما استوهبه سليمان من ربه:" قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ".
من كل ذلك يتضح أن الحملة على الدولة الأموية، واتهام الأمويين بما سماه بعض أهل الأهواء المعاصرين "الردة السياسية"، الغرض منه تشويه التاريخ الإسلامي والطعن في الصحابة، في عملية تأصيل متعسفة لرؤية سياسية معاصرة. فقد كانت الدولة الأموية دولة طوارئ، أثخنتها الحروب الداخلية التي شنها البغاة على دولة الإسلام، ولم يشغل الأمويين ذلك عن الفتوحات لإعلاء كلمة الله و تأمين حدود الدولة المهددة من الداخل والخارج. استمرار الدولة، والحفاظ على استقرارها هو الذي حدا بمعاوية رضي الله عنه إلى اختيار اجتهاد أبي بكر في الاستخلاف، بدل تعيين مجلس شورى حسب اجتهاد عمر رضي الله عنه. فقد كانت الدولة الإسلامية أيام معاوية شبيهة بها أيام الصديق من حيث الاضطراب الداخلي والانشغال بالفتح. أضف إلى ذلك أن تجربة مجلس الشورى لم تكن مشجعة كثيرا لما حدث بين أعضائه من انقسام كاد يفضي إلى فتنة لولى صرامة التدابير التي اتخذها عمر. حدث ذلك في الجيل الأول من الصحابة فما بالك بالمسلمين أيام معاوية وقد خرجوا حديثا من حرب طاحنة حول الخلافة. فكان الأولى حسم الأمر درءا للفتنة.
لكن معايير الاستخلاف اختلفت أيام معاوية عنها أيام الصديق. فقد استقر سلطان العصبية الذي أشار إليه الصديق في محاورته للأنصار، فقال:"...لن تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش."، فإذا كان معاوية قد اختار ابنه يزيد فإن دافعه إلى ذلك هو أن العصبية الأموية هي المسيطرة، وهي القادرة على الدفاع عن كيان الدولة وحفظ بيضة الإسلام. وقد كان المتشوفون للخلافة شباب من قريش من جيل يزيد، ولو ترك الأمر شورى بينهم لم تؤمن الفتنة. والدليل على ذلك أن من ثار منهم على يزيد دعا إلى نفسه، ولم يطالب بالشورى العمرية. فقد خرج الحسين رضي الله عنه داعيا إلى نفسه، ووثب ابن الزبير على الحجاز ، والمختار الثقفي على العراق قبل أن يقتله مصعب بن الزبير ويلحق العراق بملك أخيه في الحجاز.
من كل ذلك نستخلص أن مصدر الغلو هو الطمع في المال العام، والبخل بأداء الصدقات. ويظل الغلو قولا منفردا يزايد في الدين ليكسب الأنصار، ولا يظهر المال في "قول الغلو" بشكل صريح، وإنما يظهر الغلاة الزهد والورع الشديد، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم...". ثم ينتقل مرضى القلوب من حالة الغلو، إلى مرحلة "البغي" التي تتجاوز "الدعوة إلى العدل والتقوى" إلى الطعن في شرعية الحكم؛ "لا حكم إلا لله". في هذه المرحلة يفارق البغاة المجتمع من أجل الاستيلاء على الغنيمة كاملة. فقد كان الغلاة "يطالبون" بما يعدونه حصتهم من "الغنيمة" مع الاعتراف بشرعية السلطة التي يطالبونها بالعدل، ويحثونها على التقوى. أما البغاة فلا يكتفون بالمطالبة بحصة، وإنما يحاولون توسيع مفهوم الغنيمة ليشمل المجتمع كله، وتصبح هذه الغنيمة من حق البغاة وحدهم.
يبدأ البغي بنزع الشرعية عن الحكام وتكفيرهم ليستتبع ذلك تكفير المجتمع الخاضع لسلطتهم. وعن طريق التكفير تستحل الدماء والأموال... ذاك هو تاريخ الغلو والبغي الذي يتخذ اليوم أشكالا مختلفة، وإن ظل المال والسلطة محركه الرئيس. لقد اختلفت استجابات المجتمعات الإسلامية لهذه الظاهرة باختلاف مقارباتها لها. ولعل المقاربة الموريتانية تمتاز بالأصالة من حيث التصور وآليات التنفيذ...