اتصل بي منذ أيام أحد أعيان جاليتنا المكرمة في الحجاز، يطلب وثائق يستطهر بها في ملف النزاع على دخول الشناقطة في " الوقف المغربي العام" في الحرمين، تلك القضية المعروفة قديما والتي يبدو أنها عادت مجددا، وهي الآن معروضة أمام القضاء السعودي حيث يسعى بعض إخواننا المغاربة إلى حرمان الشناقطة من الأوقاف المرصودة لصالح شعوب المغرب العربي ، وهو نزاع قديم يكشف جانبا من تغوُّل المركز على الأطراف ومحاولة حرمانها من حقوقها المادية والمعنوية، وتلك لعمري مظلمة قديمة عانى منها أهل الأندلس قديما مع أهل المشرق ، وعانى منها الشناقطة منذ قرون مع إخوانهم الجزائريين والمغاربة، مع أن المسألة محسومة من الناحية الموضوعية لقوة الشواهد على دخول الشناقطة في مسمى المغرب العام.
وقع النزاع في هذه القضية سنة 1199 هـ وقام في المسألة يومئذ أحد فقهاء الشناقطة المجاورين في الحرم وهو الشيخ عبد الرشيد الشنقيطي – رحمه الله – يقول الشيخ مرتضى الزبيدي: " فوصل إلى مدينة فاس واستفتى علماءها، فكتب له التاودي بن سودة (أحد أشياخ العلامة الشنقيطي المجدد سيدي عبدُ الله ) أنهم من خُلَّصِ المغاربة، واتصل خبره بسلطان المغرب يومئذ ( سيدي محمد بن مولاي عبد الله بن مولاي إسماعيل) ، فكتب له أنهم منشورا بذلك، فورد علي (مرتضى الزبيدي)، وكتب عليها كذلك بعض علماء مصر وتوجه إلى المدينة" (محمد مرتضى الزَّبيدي الحسيني معجم الشيوخ ص405 ). وقد تجدد هذا النزاع في مطلع القرن الرابع عشر وتعصب يومئذ الجزائريون على الشناقطة وأخرجوهم من وقف المغاربة، وكتب أحمد بن الأمين صاحب الوسيط في ذلك، كما شغل اهتمام الإمام محمد محمود بن التلاميد فكان من بين الشروط التي شرط على السلطان العثماني عبد الحميد من أجل سفره إلى ملك الدنمارك تلك الرحلة التي لم يُكتب لها أن تتحق.
قد نتسامح مع الجزائريين قديما في تعصبهم على الشناقطة لبعد الشقة بينا وبينهم، وارتباطهم يومئذ بالدولة العثمانية والاحتلال الفرنسي بعد ذلك، لكن تعصب المغاربة ضد إخوانهم الشناقطة اليوم من ظلم ذوي القربى الذي لا يطاق، فهم الذين استغلوا مغربية شنقيط - بالمعنى العام - سياسيا وثقافيا، فشرَّعوا بها استيلاءهم على الصحراء وطالبوا بموريتانيا على أساسها، وتبنوا جزء كبيرا من تراث شنقيط التاريخي والعلمي (صحتهمْ بالزاف)، وهم مع ذلك أقرب إلينا تاريخيا واجتماعيا وثقافيا إلى غير ذلك مما لا يبقي لهم عذرا .
كيف لهم أن ينازعوا في أمر أثبته أبو عبيد البكري والإدريسي وابن خلدون وغيرهم من علماء الجغرافيا قديما، وأثبه التاودي بن سودة والسلطان سيدي محمد بن عبد الله والسلطان مولاي عبد الحفيظ والكتاني والناصري السلاوي وعامة علماء المغرب قديما وحديثا ؟! بل وأثبته علماء مصر كالسخاوي وابن حجر قديما وعمر كحالة حديثا حيث قال في ترجمته لتاج علماء القطر المختار بن بونا : " كان يسكن عند البدو بأقصى المغرب " .
ولو تتبعنا ما ذكره علماء الشناقطة في انتسابهم للمغرب العربي لطال الكلام جدا، فهذا الفقيه محمدُ بن مَحمد بن المختار الشواف التشيتي (1150هـ تقريبا ) يقول في نظم له في تاريخ تشتيت:
تشيت قرية بأقصى المغرب *** مؤسسوها الشرفا آل النبي
ويقول الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديًّ في مدح والده:
ألفيتمُ الذين بقُطرِ المغرب .***.. طارتْ به في الجوّ عَنْقا مُغرب
صحيح أن أجزاء من بلاد شنقيط خضعت قديما لمملكة مالي مما أدى إلى ارتباط بعض المناطق بالمنظومة التكرورية التي جمعتنا مع الأزواديين وغيرهم، لكن ذلك الخلط متعلق بالمشارقة فقط، مع أنهم ظلوا يميزون بين " المغاربة والسودان " من أهل التكرور، كما أشار إليه السخاوي مرارا؛ فليس ذلك إلا مثل تبعية الجزائر وتونس وليبيا للدولة العثمانية.
هذا ومما لا خلاف فيه بين الفقهاء من المذاهب الأربعة أن مدار ألفاظ الواقف على العرف، وأن كل من أثبت العرف دخوله في لفظ الواقف فهو داخل لا محالة، وأن العرف المتقرر في زمن الواقف ينزل منزلة الشرط، وأن ألفاظ الواقف لا علاقة لها بالوضع السياسي؛ وهذا من الضروريات عند من له أدنى مشاركة في الفقه والأصول، ومن كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية:
" وقول الفقهاء نصوص الواقف كنصوص الشارع ، يعني في الفهم والدلالة لا في وجوب العمل . مع أن التحقيق أن لفظ الواقف والموصي والناذر والحالف وكل عاقد يحمل على مذهبه وعادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها وافق لغة العرب أو لغة الشارع أو لا . والعادة المستمرة والعرف المستقر في الوقف يدل على شرط الواقف أكثر مما يدل لفظ الاستفاضة " (اختيارات ابن تيمية للشيخ علاء الدين ابن البعلي الحنبلي 1\155) ولا شك أن القضاء السعودي لن يحكم بخلاف قياس اقتراني حكم بصغراه وحقق مناطه ملك المغرب سيدي محمد بن مولاي عبد الله والمرتضى الزبيدي، وحكم بالكبرى وأصل الحكم النظري شيخ الإسلام ابن تيمية .
مع أن بعض هذه الاوقاف العامة هي من وقف أعلام من الشناقطة كالأميرة اخناثة بنت بكار بن علي بن عبد الله البركنية المغفرية (1151هـ ) زوج ملك المغرب مولاي اسماعيل وجدة ملوكه اليوم ، فهل كنت تلك الأميرة المغفرية العريقة لتُخرج الشناقطة من وقف المغاربة وهي التي لم تزل تحمي قبائل " الوداي " القاطنيين في حوز مراكش من بطش السلطان وتساندهم لتك العلاقة ؟!
وأخيرا لقد نجح علماؤنا المهاجرون إلى المشرق من الخروج من خمول الأطراف ولعنة الجغرافيا تلك القديمة التي قال فيها ابن حزم:
أنا الشمس في جو العلوم منيرة *** ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
ولو أنني من جانب الشرق طالع *** لجد على ما ضاع من ذكرى النهب
هنالك يدري أن للبعد قصة *** وأن كساد العلم آفته القرب
فكان منهم علماء بارزون حملوا مشعل النهضة العلمية في مختلف مشاربها، لكنهم ما زالوا يعانون من مخلفات ظلم التاريخ وظلم ذوي القربى من جيرانهم وعلى الله التكلان.