بينما أنا سائر صباح هذا اليوم إلى لكصر في زيارة اعتيادية للوالدة حفظها الله، إذ عنَّ لي أن أعرج في الطريق على منزل صديقي الشاعر الموسوعي العملاق محمد الحافظ ولد أحمدو فأزوره زيارة أردتها خاطفة منحصرة في مواضيع محددة أود توضيحها منه، فإذا بمجلسنا يمتد أربع ساعات متتالية فيتشعب فيه حديث الرجل ليحلق عاليا في شتى فضاءات العلوم.
حاولت جاهدا أن أقيد ما استطعت تقييده من الشوارد المفيدة المسترسلة بانسياب على لسان الرجل فما طاوعني الحفظ ولا القلم.
استفسرته عما كنت سمعته منه قبل سنوات ومفاده أن لديه فهما خاصا في قول الشيخ التراد ولد العباس في قصيدته المشهورة "تصفية الطريق":
وقلْ يا ربِّ خمسَ مراتٍ تنلْ جميعَ ما أمَّلته كما نُقِلْ
فقال إنه يظن أنها إشارة إلى الدعوات الخمس الواردة في آخر سورة آل عمران عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { 191 } رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ { 192 } رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ { 193 } رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ { 194 } فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ {195} صدق الله العظيم.
والغريب أنني لما عدت إلى المنزل ظهرا، بادرت إلى مراجعة تفسير الذهب الإبريز، فما هالني إلا مطابقة قول الشاعر مع ما أورده محمد اليدالي رحمه الله معزوا للإمام جعفر الصادق من أنه قال: "من حزَّ به أمر فقال خمس مرات {ربنا } نجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ هذه الآيات".قلت: سبحان الله، والغريب أن هذه الدعوات الخمس وردت كذلك في خمس آيات لا أكثر ولا أقل هي الآيات من 190 إلى 195 من سورة آل عمران، ثم تنبهت إلى أن هذه القولة ربما تكون هي المعنية بقول الشيخ التراد "فيما نقل" في آخر بيته.
هذا وبخصوص هذه الآيات نقل اليدالي عن الفخر الرازي (في تفسيره مفاتيح الغيب) قوله: "إن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح عن الاشتغال بالخلق والاستغراق في معرفة الحق، فلما طال الكلام في تقرير الأحكام والجواب عن شبهات المبطلين، عاد إلى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والكبرياء والجلال وذكر الأدعية فختم بهذه الآيات بنحو ما في سورة البقرة"!وأورد قول الغزالي في "الإحياء": (ونهاية ثمرة الدين في الدنيا تحصيل المعرفة وتحصيل الإنس بذكر الله، والأنس يحصل بدوام الذكر والمعرفة بدوام الفكر).
هذا ومن القرآن تدرج بنا الحديث إلى الفقه ومن الفقه نفذنا مباشرة إلى الأدب.
أثنى الشاعر بإسهاب على ما بذلته "دار الرضوان" لصاحبها أحمد سالك ولد ابوه برعاية العلامة لمرابط محمد سالم ولد عدود ثم اليدالي ولد الحاج أحمد من بعده من جهد محمود خدمة للمذهب المالكي وهو من كبار المدافعين عنه، فإذا به ينشد في هذه الهيأة وفي أهلها من روائع شعره.
ومن أجود ما أسمعني قوله في الدار:
مجالس فقه الأصبحي الغوث مالك == قد انتابها شوق لأحمد سالك
وحنت إلى حاني رعاية جوده == وتنويره سود الليالي الحوالك
وتجميعه شتى الجهابذ جاهدا == ليرأب ثأْيَ الدهر في فقه مالك
فدام لأهل العلم والفضل معقلا == وجُنِّبَ أسباب الردى والمهالك
به العلماء الغُرُّ ثابت إليهمُ == مكانتهم في مستقيم المسالك
فطاب على العلم الصحيح عكوفهم == بقاعة علم هي إحدى المناسك
يتم بها ضبط العلوم وسبرها == بدقة فهم الباحث المتماسك
يقر بعيني أن أرى مكتباتِها == تَغُصُّ بما يُرْوي ظماء المدارك
تدارك منها الشيخ عِلْق نفائس == فنعم مساعي الأريحيِّ المدارك
به ترفع "الرضوان" شم قبابها == هناك منيفاتِ الذرى والحوارك
فما سرني إن زرتها أنَّ لي بها == كرائمَ عوذ المُتلِيات الأوارك
ترى القوم فيها مخبتين كأنهم == صفوف جنود في مَكَرِّ المعارك
خشوعا كأن الطير فوق رؤوسهم == مُرَابَطُهُمْ في العلم ثغْرُ الملاحك
بهم غيظت الحساد صرعى غمومِهم == وأذعن في التحقيق كلُّ مماحك
وتلقى هناك الباحثين عصائبا == وفي كل فن جاء كل مشارك
لهم مُقْرَبات من أضابير فقههم == كمقربة الخيل الجياد العوالك
يُطاف بمعبوط السنام عليهم == من البَهْزَرِ الكُومَا الكُهَاةِ اللَّكَالِكِ
وَمَا شئت من غر الجفان كأنها == جوابي حياض الجامل المتلاحك
وأقداح ألبان وضَيْحٍ تُعِلُّهُمْ == وكاسات شاي كالأقاحي ضواحك
فبارك رب العرش أحمد سالكا == ولا زال مكلوءا بجاه الملائك
وجاه رسول الله أكرم مرسل == عليه صلاة الله أعظم مالك
وما لبثنا أن تحول إنشاده إنشاءا في ذات السياق إذ اضجع على قفاه وانتزع فجأة ورقة من دفتر الفيزياء لأحد أبنائه وناولنيها وأشفعها قلما، وقال لي بالله عليك إلا ما كتبت عني، ففهمت أنه تنتابه حالة مخاض عسير، وبدأت أستعد لاستقبال المولود الجديد وكنت أظنه يقرض البيت أو البيتين في بحر يسير وقافية بسيطة فإذا بالمولود يخرج إلى عالم الوجود صحيح البنية مكتمل الأركان يستفيض إلى قصيدة طويلة عريضة في روي الضاد:
بسعيك كيد الحاسدين مهيضُ == وحمل أعادي الصالحين جهيضُ
نَهَضْتَ بما أعيا الرجال احتمالُه == وأنت بأعباء الكرام نَهُوض
أليس بمحيي الدين سمَّاكَ والدٌ == طويل ذَرَاهُ في الأنام عريض
تَفَرَّسَ فِيكَ القَرْمُ خَيْرَ فِرَاسة == فأنت ببحر المكرمات تخوض
تُضاعف أضعافا على حسن ظَنِّه == لصعبِ عصِيِّ الصالحات تَرُوض
وتعشو إلى أنوار كل فضيلة == إذا لاح من برق الفَخَارِ وَمِيضُ
وتُقْرِضُ ربَّ العرش أحسَن قرضه == ألا إنما سعيُ الرِّجال قُرُوض
وذلك فضل الله من إرث جَدِّكُمْ == وفَيْضٌ من الشيخ الشريفِ مَفِيضُ
وثقتَ بما عند الإله فلم تخف == ففاضت من المولى عليك فُيوض
تبارك ربُّ العالمين وزادكمْ == ببحرٍ خضمِّ الموجِ ليس يَغِيض
ووالله لا يخزيك ربُّكَ إنه == يجازي بنقدٍ ليس فيه عُرُوض
وما يَمْتَري في الله جَلَّ جلاله == من الناس إلا مُلْحِدٌ ومريض
فجوزيت مِن ربِّ البرية بالرضى == ونُجْحٍ ورضوان عليك يَفيض
وعُمِّرت في التقوى إلى مُنتهى الْمُنى == وأسْكَتَ شَانِيكَ الْحَسُودَ جَرِيضُ
وَطارت به العنقاء في كل كوكب == مَطَارًا بِه طَيْرُ الأَنُوقِ تَبِيضُ
ولو أنني أسْطِيعُ جَازَيْتُ فِعْلَكُمْ == وَلكنما جُهد المُقِلِّ قَرِيضُ !
والحقيقة أنني كنت أحبس أنفاسي مع بداية كل بيت حتى إذا أكمله تنفست الصعداء وتمنيت لو أكمل إشفاقا عليه من هذه القافية الشَّمُوس.
هذا ومن طريف ما حدثني به خطأ فادح قال إنه اكتشفه في لسان العرب لابن منظور فأرانيه في مادة وَزَّ إذ قال إن صاحبه صحَّفَ كلمة في بيت للنابغة الذبياني في قصيدته التي مطلعها:
ودِّعْ أُمامة والتّوديعُ تَعْذيرُ == و ما وداعكَ منْ قفتْ به العيرُ
وهي كلمة تبن إذ جعلها تيناً وبنى على ذلك خطأ كبيرا.
قال النابغة:
تلقي الإوزِّينَ ، في أكنافِ دارتها == بَيْضاً وبينَ يدَيها التّبنُ مَنثورُ
قال إن التبن هو صنف من علف الحيوان وخاصة منه الإبل وهو "انخاله" عندنا بالحسانية وأن ابن منظور قرأه التِّين أي الثمرة الطيبة المعروفة فبنى على ذلك أن الإوِزَّ امرأة سكنت الحضر فأكلت الطيبات من الرزق وهي في الحقيقة ناقة تعلف ما اعتادته من تبن الريف لا تين الحضر!.
قال ابن منظور في لسان العرب عند استشهاده بهذا البيت:
" تلقى الإوزين في أكناف دارتها == فوضى وبين يديها التين منثورأي أن هذه المرأة تحضرت فالإوز في دارتها تأكل التين ، وإنما جعل ذلك علامة التحضر، لأن التين إنما يكون بالأرياف وهناك تأكله الإوز".
قلت: ويظهر صحة ما ذهب إليه محمد الحافظ من البيتين السابق واللاحق للبيت المذكور من القصيدة:
ليستْ ترى حَوْلَها إلْفاً وراكِبُها == نشوانُ في جَوّة ٍ الباغوثِ مَخمورُ
إلى أن يقول:
لولا الهُمامُ الذي تُرْجى نَوافِلُهُ == لقالَ راكِبُها في عُصْبَة ٍ سيرُوا
وفي مجال القرآن الكريم قال إنه فكر مرة في أن اسم الله الأعظم قد يكون في أعظم آية من القرآن وفي أعظم سورة من القرآن وأنه قد يكون الله لأنه ما تسمى به أحد من خلقه فيما يعلم!
وقال إنه تنبه إلى أن القرآن لم تأت فيه آية تدل على إثبات صفة من صفات الله إلا وسبقها نفي التشبيه مثل قوله تعالى:
«ليس كمثله شيء وهو السميع البصير» وقوله «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار».
وفي مجال الأنساب قال من حيث النكتة إنه رأى في القاموس أن "بَني أوباما" هم قبيلة من العرب وأن "ندغه" القريبة من تندغه بطن من قضاعة منها العيدي بن الندغي كعربي!
وفي معرض حديثه عن الهدايا التي يتلقاها أمثاله من الشعراء ممن يقدرون الشعر وينزلون الشعراء منازلهم، قال: "إن من أطرف ما تلقيته من ذلك أنني كنت مرة في حاضرة التيسير المحروسة ولم أعد إلى المنزل إلا وهنا من الليل وكان الوقت شتاء وقد أبى أحد المريدين الصحراويين في الحضرة المحبين للشعر والشعراء إلا أن يهديني لثاما أحتمي به من شدة البرد وكان باللثام خَلُوقٌ، وما إن وصلت إلى المنزل حتى استقبلت استقبالا تنبهت منه إلى أن الرجل أساء إلي من حيث أراد إحسانا إذ أضفى علي اللثام تهمة شنيعة ما تبرأت منها إلا ضحى الغد بصحيح النقول والشهود العدول"!.
لم أقيد من شاردات الرجل ووارداته إلا غيض من فيض، فهو حقا مفخرة هذه البلاد بل والعالم العربي والإسلامي على العموم..رحم الله السلف وبارك في الخلف ..
من صفحة محمدن ولد سيدي الملقب بدنا على الفيس بوك