لو جاءني أصدق الناس وقصّ عليّ القصة التالية لما صدقته إلا وفي النفس مما حدث به شيء. لكنها وقعتْ لي وأمام ناظري؛ فلا أملك تكذيب ما تضافر عليه شاهدا السمع والبصر.
دخلتُ إحدى المكتبات العامة وطلبت من الموظف المُتورِّكِ كرسيَّ الكتبيّ أن يعطيني لائحة بكل العناوين المتعلقة بالجاحظ. مدّ الرجل راحتيْه إلى حاسوبه وسأل: ما اسم المؤلف؟
فقلت له: الجاحظ. فطلب مني تهجئة اسمه. ظننت الرجلَ يمزح. فرددت النظر في وجنتيْه الناتئتين وبشرته البيضاء المشربة بحمرة وعينيه السوداوين فما رأيت مزحا، بل جِدا وتهمّماً، وانهماكا في الأمر. حوقلت في نفسي ثم قلت له: الجاحظ. فعاد طالبا تهجئة الاسم بالأحرف حتى يتأكد من صحة كتابته.
وقف صاحبكم للمرة الأولى في حياته يهجئ اسم الجاحظ.
اكتشفت حينها أنه لا صورة بصرية لكتابة اسم أبي عثمان في ذهني. فصورة عمرو بن بحرٍ برأسه الصغير، وعقنه الدقيق، وقامته القصيرة وعينيه الجاحظتين أقوى حضورا، وأوضح في ذهني من الأحرف التي يتكون منها اسمه. لذلك قلت بتلعثم:
– ألف، لام،… جيم/ لا! لا!، نعم: ألف حاء، ظاء.
عاد الكتبي وسألني عن الحرف الأخير مرات ليميز أظاءٌ هو أم ضاد.
شعرت بحاجةٍ ضاغطة للضحك والبكاء، والصراخ والصمت، والاحتجاج والشكر. إذ غمرني شعور غائم بالحاجة إلى صفع الرجل، أو الانحناء لتقبيل جبينه رأفة. فكيف بمن يتورّك كرسي الكتبي في مكتبة عربية عامة أن لا يكون سمع طيلة عمره كلمة “الجاحظ”.
مدني الرجلٌ بأربع صفحات عن كل ما في المكتبة عن الجاحظ. تناولت الأوراق بيد مرتعشة ونفس قَلِسَةٍ، ورميت نفسي على الكرسي أتأملها ببلاهة. فقد فقدتٌ التركيز وضجّ ذهني بأسئلة متدافعة تائهة. جلست أقلب الصفحات، مُرراوحاً بين النظر في العنوانات التي بين يدي، والنظر إلى الكتبيّ الجالس؛ حنقاً وحمية لشيخنا أبي عثمان.
كنت أنظر إلى الأوراق فأرى عنوانات منها:
– المناحي الفلسفية في الجاحظ
– الجاحظ في البصرة وبغداد وسامراء
فأعيد النظر إلى الكتبي المتورك كرسي الإفتاء في مكتبة عربية عامة، وأتخيل شعور مؤلفيْ الكتابين لو حُدثا بالقصة.
ثم أرجع ناظري للأوراق فأرى: رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون. فتتراءى لي صورة عبد السلام هارون مندسا أواسط الخمسينيات بين المخطوطات، نائبا عن العالم في تصحيح وإخراج مكتبة الجاحظ. ثم أشعر بالحاجة الشديدة لتسجيل بلاغ شكوى عنده من الموقف الآنف الذكر. ثم تخيلت نفسي متسورا البابَ عليه وهو في خلوته بين أكوام مخطوطاته، لأقف على رأسه وأحدثه بالواقعة. فتخيلته يخرج من بين مخطوطاته لينادي على مجموعة من النساخ والكتاب فينطلقون راكضين، مسلحين بأقلامهم الحادة، وما خف من أوراق وجلود ومحابر، مستنجدين بنواطير دار الكتب المصرية ليهجموا على هذا الكتبي الذي لم تقرعْ طبلةَ أذنه كلمة الجاحظ.
ظللتُ جامدا على الكرسي أقلب النظر في الأوراق التي بيدي، مقارنا بين الكتبيِّ النشاز، ووراقٍ عاش في القرن الرابع الهجري اشتهر باسم ابن النديم.
كان ابن النديم وراقا من وراقي بغداد. وكان يحتفظ بدفاتر يكتب فيها ملعومات ذات صلة بصنعته؛ كأسماء الكتب ونبذٍ قصيرة عن مؤلفيها، تراكمت مع الوقت حتى حولها إلى كتاب. وقد أصبح ذلك الكتاب واحدا من أهم كتب التأريخ الثقافي في التاريخ. حيث احتفظ للعالم بأسماء مئات الكتب التي بادت، كما ترجم لشخصيات ضاعت ترجمتها فأصبحت دفاتره تلك المصدر الوحيد.
كما كنت أتذكر الكتبيين الموجودين في بقع أخرى من العالم، وكيف لا يصبح الواحد منهم كتبياً إلا إذا حاز من العلم والأدب ما يؤهله لصنعته، مما مساعدة للسائل وإرشاد للمسترشد.
قمت من فوق الكرسي عكر المزاج، وأنا أخفف عن نفسي بأن زمن التجريف المعرفي هذا- -وهو نتيجة لتجريف الاستبداد والعسكر للأوطان- لا تستغرب فيه مثل هذه المواقف.
فليس من الغريب الوقوف على أستاذ عربية لم يسمع قط بكتاب سيبويه. ولا من النشاز أن تُلفيَ متصدرا في الإفتاء لم يقرأ قط الرسالة للشافعي، أو متصدرا لقيادة الناس لم يدفع من حريته يوم سجنٍ واحد في بلد تضج سجونه بالأحرار. ولا من الغريب إيجاد صحفي لا يستطيع الحديث بالفصحى، أو لم يقرأ قط رسائل عبد الحميد ولا غيرها من النصوص المؤسسة. فلمَ أظلم هذا الكتبي المسكين هذا وأقسو عليه لطلبه تهجئة اسم الجاحظ؟ فما هو إلا صورة لحالة التجريف في مجتمعاتا المسكينة هذه.
إذا ما قلتَ أيهمٌ لأيٍّ * تشابهت المناكبُ والرؤوسٌ!
- المقال منشور بوقع إيوان 24 بتاريخ الأول من فبراير 2016
- نقلا عن مدونة أحمد فال ولد الدين