أحمد سالم ولد باب
لم تعد موائد الإفطار في رمضان وحدها شاهدا على التغير الكبير الذي طرأ على العادات الغذائية في موريتانيا.. بل أصبح في موائد الغداء والعشاء - والإفطار أحيانا - دلائلُ على ما طال عاداتِنا من تنوع في هذا الصدد.. فهي الآن لا تكاد تخلو من دجاج أو سمك أو خضروات أو فواكه.
ومن الطريف حقا أن جُلَّ "البيضان" الموريتانيين كان يأنف من أكل الدجاج، ولم يكن يراه يصلح قِرًى للضيف!
والأطرف من ذلك أن نلاحظ أن الحسّانية - وهي لهجة محرّفة عن العربية؛ يتكلمها أغلب سكان البلاد - لا تحوي أَيَّ اسْمٍ لِأَيِّ نوع من أنواع السمك!
وحين نعلم أن كثيرا من موريتانيي الصحراء؛ قضوا جوعًا إبان المجاعات التي ضربت البلاد في النصف الأول من القرن العشرين، وهم على مرمى حجرٍ من شاطئ يُعَدُّ من أغنى الشواطئ العالمية بالأسماك.. نوقن حينها أن ولد أبنو ولد احميده لم يجنح إلى المبالغة حين قال:
خَلَطُوا طَعَامَهُمْ بِحُوتٍ يَابِسٍ ** وَأَنَا أَعَافُ الْحُوتَ يَوْمَ خُرُوجِهِ
ويكفي أن نعلم أن جميع الخضروات والفواكه في موريتانيا تحمل أسماء فرنسية؛ لكي نعرف أنها دخلت مجالَ التداولِ اللغوي فقط مع دخول الفرنسيين المستعمرين!
وإذا وجد البعضُ في هذا مادّةً للتندر - وهو أمر يحصل كثيرا - فإن الموريتانيين بدورهم يتندرون على هذا "البعض" بأنه "لا يعرف اللحوم الحمراء إلا في الأعياد والمواسم"، ويضحكون مِلْءَ أشداقهم وهم يتداولون نكتةً مفادها أن شعبا من جيرانهم؛ "يدور عليه العام ولم ينفد لحم أضحيته"!
والواقع أنه ليس من المجازفة إطلاقُ صفة "الشعب اللاَّحِم" على الموريتانيين، فهم - على خلاف كثير من الشعوب الأخرى - يأكلون اللحوم الحمراء يوميا، ويندر أن يتجاوزَ لَحْمُ الذبيحة عندهم يومين دون أن ينفد، بل ليس من قبيل النادر أن تُؤْكَلَ الذبيحةُ كلُّها على مائدة واحدة!
ورغم أن الكثيرين يرون أن "الصراع الخفي" - بين الشعبين الموريتاني والسنغالي - على "حقوق الملكية" لوجبتي "مَارُ والحوت" و"مَارُ واللحم"؛ محسوم لصالح السنغاليين لِقَرَائِنَ لا تخلو من وجاهة، منها: تأخر دخول السمك في العادات الغذائية لكثير من الموريتانيين، ومنها التسمية الشائعة "تيبو ﭽن" التي يستخدمها الموريتانيون أنفسهم.. بل إن البعض يذهب إلى أن الأرزَ نفسه دخيلٌ على عاداتنا الغذائية!
رغم ذلك فإن للموريتانيين وجباتهم التي لا ينازعهم فيها أحد، ولا يُعْجِزُهَا إعجابُ وتنويهُ ضيوفِ وزُوَّارِ البلد.
وتصلح هذه الوجبات برهانا ساطعا على صحة نظريات ابن خلدون العمرانية! فهي تختلف غِنًى وجودة وتركيبا وتنوعا باختلاف المناطق: تحضرا وبداوة، فقرا وغِنًى، اختلاطا بالشعوب الأخرى أو انعزالا عنها...
فبينما تتميز وجبات الحواضر العريقة للبلاد (ودان، شنقيط، أطار، ولاته، تجگجه ...) بِغِنَاهَا وتنوعها وقيمتها الغذائية الكبيرة وطقوسها الخاصة، فإن وجبات المناطق البدوية - ومنها منطقة الگبله - تتميز ببساطتها وَخِفَّةِ مؤونتها وسرعة وسهولة إعدادها..
وقد استُخدمت الوجبات والعادات الغذائية في الصراع الجهوي و"المناطقي" أيضا، فيحكى أن رجلا نزل ضيفا عند قوم من أهل آدرار، فأكرمته ربة البيت بوجبة " لِكْسُورْ" المعروفة، فأعجب بها الضيف كثيرا، وسألها مستفسرا: هَاذِ اكْرَاطِتْ آشْ؟ فقالت السيدة في مرارة: هَاذِ اكْرَاطِتْ إنا لله وإنا إليه راجعون!
وحين يسرح المرء نظره في الطريق الطويل الذي قادنا إلى العادات الغذائية الحالية؛ يجد أنه كان مفروشا بالطرائف والنكت، فقد أتى حينٌ من الدهر كان الأرز فيه طعاما مخصصا لإكرام الضيف، قبل أن تحل محله "مكرونه" في الستينيات والسبعينيات!
ويعجب المرء كيف تسربت بعضُ أسرار هذا "التحول في العادات الغذائية" إلى الآخرين، فقد سأل أحد الطلبة التونسيين زميله الموريتاني قائلا: هل صحيح أن الموريتاني لا يأكل الفواكه إلا حين يكون مريضا؟!