تأبى الليالي وذاكرة الأيام أن تمحي صدى ظلّ يتأرجح بين ذات اليمين حيث المقاومة الموريتانية والفداء، وأصحاب الشِمالِ حيث العمالة والطاعة في سبيل أن تنال فرنسا غايتها ومرامها في أرض البيظان.
إنّ الحديث عن أمّ المعارك/ أمّ التونسي، ليس حديثاً مبتورًا، وهو نتيجةً حتميةً أفرزتها معاركُ لا تقلُّ عنها من حيث الأهمّيةِ، وكانت كلُّها في صالحِ المقاومة الموريتانية أيّام شبابها وزهوها قبل أن يستشهد قادتُها وتبرد جذوة عزيمتها، بفعل عواملَ منها الجفافُ والتصحُّر، ومنها آثار الحرب العالمية الأولى وقرع طبول الحرب العالمية الثانية.
في هذه الخطى الاستقصائية على إثر أبطال أمُّ التونسي سيكونُ مصدرنا فيها هو المصدرُ الفرنسيُّ دون غيره، ذلك أنّ أصحاب النظرية الوهمية يؤمنون بها أكثر من إيمانهم بهويتهم الحضارية وانتمائهم لماضي رقعة أرض البيظان الجغرافية، التي احتضنتهم وجعلت منهم بشرا سويا.
إنّ الحديث عن ماضي المقاومة الموريتانية المجيد حديث يلفُّه الكثير، ذلك أنَّ المصدر الفرنسي ليست لديه تابوهات اجتماعية يؤمن بها ويمنعُه الضمير من عدم التعبير عنها والبوح بها خارج سياقها الزمكانيّ الظرفيّ الذي أنتجها، وليس لديه تاريخٌ مشرقٌ/ على الأقل في الطينة الموريتانية التي هي مجالنا يخاف على تدنيسه، ولهذا كان صريحاً إلى أبعد الحدود/ وهذه تحمدُ له، في بيان أعوانه الذين تحوّلوا إلى أولياء وصُلحاء/ يتبرّك بهم، ووطنيين حطّموا أشرعة الغزاة. أمّا المصادر الأخرى فقد دعت الظروف والتراتبية حينها أن يتولّى الزوايا كتابتها/ كأقصى ما يمكنهم فعله، ويتولّى حسّان الرماح والأسنّة وفوّهات مدافع البارود، غير أنّ رياح الاستعمار أضفت بظلالها على كلّ مكتوب ومسموع، فتمّ تحويلُ الكتابة لصالحه مقابلَ ما تمّ إنجازه في حكومة الاستعمار باستثناء ما بقي عصياً على النسيان.
لقد ظلّت الأراضي الصحراوية جنوبا في قلق دائم لفقد نظام أميري جامع يضبط شأنها، بسبب انعكاسات حرب "الشربّبه"/ السياسية، التي فرضت على المنهزمين من الزوايا الانزواء بعيدًا والانطواء الغموضي عن الشأن العام، وفرضت على المنتصرين من حسّان الاستئثار بالحكم وكلّ مظاهر الزهو والفخر، الأمر الذي ظهرت آثارُه إبّان مقدم المستعمر الفرنسي أواخر القرن التاسع عشر؛ ولم يكن أمامه بدٌ من استغلاله لصالحه.
ثمّ إنّ ظاهرة تخوين ساكنة المنطقة/ من حسّان، والتهويل من أمر السيبة لم يكن بريئا، فقد كانت وراءَه أطماعٌ سياسيوية خجولة، عبّر عنها الرائد الفرنسي جولييه بقوله: {المقاومة التي واجهتنا خلال توغّلنا، ما عادا تلك التي قام بها ضدَّنا المرابط ماء العينين لهدف محدَّد، كانت فقط من القبائل المحاربة ... أمّا كبار الشيوخ الدينيين فقد كانوا على العكس، مُكتسبين في البداية، بل كانوا يبحثون عن توطيد وتطوير نفوذهم من خلالنا}. وهو أمرٌ انعكس جليا خلال نشأة حكومة الاستعمار.
لقد كانت فرنسا واضحةً إلى أبعد الحدود في سياستِها القائمة على مبدأ "فرّق تسد"، ولهذا الغرض اختارت الأكفاء؛ وبحكم معرفة كزافي كبولاني باللغة العربية وبعض مبادئ التصوُّف كان هو الموكل بالمهمّة، فقام بها أحسن قيام.
يقول الرائد جولييه: {في مرحلة تمهيدية بدأ كبولاني اتصالاته بالمشايخ الدينيين، الأكثر نفوذا؛ مثل: الشيخ سيديّ، والشيخ سعد بوه، والشيخ سليمان، والعلماء الأكثر شهرةً، وبعد مُفاوضات شاقَّة استطاع كبولاني إزاحة العقبات... بفضل معرفته العميقة بالنفسية المسلمة، وإتقانه للّغة العربية.}، وبفضل هذه الحنكة سوّق كبولاني ضرورة الخضوع للسلطة الفرنسية محذِّرا في الوقت نفسه من التصدّي لها، وهو أمرٌ أخذ بعض الوقت من الرائد فرير جان مع معلّمه امحمد ولد اعمر، الذي كان يعلّمه تهجي الحروف العربية وبعض العادات الاجتماعية السائدة في مجتمع البيظان؛ هذا فضلاً عن علاقته الحميمة بأخيارهم ولد سيدي، التي تجاوزت شرب الشاي المنعنع إلى التعويض له " بصاك من السكر وحفنة من الوركَة، وكمْية من امّنيج" مقابل أخبار القوم.
يقول الرائد فرير جانه: {بفضل اخيارهم فتحتُ نافذةَ على عالم البيظان... إنّه يعلم ويعرف كلّ شيء}، ولا يفوتنا في هذا المقام الدور المحوري الذي لعبه اخيارهم في نسج خيوط الحروب البينية/ القذرة، التي كانت تحدث بين أمراء الترارزة/ ذريعة مقدم فرنسا، بحكم مكانة والده الاجتماعية ومكانته كمستشار أوّل للأمير التروزي أحمد سالم ولد ابراهيم السالم.
يضيف الرائد فرير جان في شأن مستشاره أخيارهم: {.. بالرغم من تقدّمه في السنّ، فقد كان رشيقاً بفضل الحركات الرشيقة التي يمارسها المسلمون في الصلاة، إنّه لا يشبه أحدا في اللجاجة والإلحاح ولا يعدم الحصول على "ساق" من السكر، وحفنة من الشاي الأخضر، ورأس من التبغ}. ولا يخفي فرير جان إعجابه بساعي البريد حين يقول: {إنّ أخيارهم رجل ذكي، ويمسك دائما بخيوط المنطقة، أمّا نحن فنمسك به ... وهو رجل مجرّب وواقعي، يدرك أنّ أهل المنطقة لا يمكنهم الدخول معنا في حرب مفتوحة، ولا يمكنه بحال التراجع عن خدمتنا، لأنّه متورّط فيها}. ولهذا كان الناس حين يلقونه يكفهرّون في وجهه قائلين:
افسّن اكبرت *** أُشيبان
تفرح لاشفت***كبولاني
إنّنا حين نتحدّث عن المعارك التي جرت مع القوى الاستعمارية يجب أن نتذكّر دوما خيوط المؤامرات التي كانت تحاك في الهزيع الأخير من الليل، والمضاجعات التي كانت تحدث على ضوء القمر وفوق الكثبان الرملية الذهبية على وقع كؤوس الشاي.
يقول الرائد فرير جان في خبر أحد الأعيان:{... لم أستغرب إذن عندما أحضره أخيارهم يوم 13 يناير عند حلول الظلام، إنّه إنسان عظيم، ضامر وقوي أسمر اللون، رأسه كرأس الكواسر، ذو نظرات حيّة ولكن مع الحذر، فهو متملّص وحركي، وباختصار إنّه نمط جيّد للقائد المحارب}. هكذا كان يتمُّ اختيار واختبار من سيقودون مهامّ فرنسا في جمهورية الرمال.
ورغم احترامنا الشديد لهؤلاء بما فيهم العلماء، فإنّ فرنسا استغلّتهم لأغراضها/ السيّئة، وكانت واضحة في اختيارها لهم، حيث يحدّثنا الرائد جولييه بقوله:{هؤلاء الشيوخ المقدّسون هم الذين عند عودتهم إلى أحيائهم، يُستخدمون لنشر هذه الأفكار الجديدة، وإقناع ذويهم وتلاميذهم بها، ومن ثمّ إقناع قبائل الزوايا وبعض المحاربين بفكرة الخضوع للسلطة الفرنسية وقبول حمايتها}؛ ويشير الرائد جولييه باستغراب ودهشة {وهذا حدثٌ فريدٌ في حوليات المسلمين، فإنّ هؤلاء الشيوخ المتديّنين هم الذين مهّدوا لنا الطريق وأدخلونا إلى موريتانيا}.
إنّ هذا الكلام مع تحفُّظنا الشديد عليه، لم يكن ليلق ترحيبا - رغم خطورته - في أوساط المثقّفين الفرانكفونيين لولا أنّه فاه به أحد قادة الحرب الاستعمارية الفرنسية، الذين لا يهتمون بموريتانيا في فرنسا إلا إذا كان هناك قائد استعماري/ معارض حسب الرائد فريرجان؛ ويضيف الرائد جولييه:{عرف كبولاني إذن كيف يكسب ثقة الشيخ سعد بوه والشيخ سيديّ، اللذين أحاطهما بكثير من الاعتبار وجعل منهما/ أصدقاء مخلصين، وبفضل الأخير تمكّنا من بسط نفوذنا في كافّة موريتانيا الجنوبية تقريبا دون قتال}. ولنا أن نتعجّب عن أيّ نوع من الصداقة جعل هذا القائد الاستعماري يشيد به؟
وبالنظر في العلاقات التجارية التي كانت تقام عند الموانئ، كان الفرنسيون/ والبريطانيون من قبل، يحتفون بانضباط معاملات أمراء حسّان، وكانت هداياهم وعطاياهم للأمراء وأعوانهم تُعرض قبل أيّ صفقة، فأين منطق السيبة إذن؟ إذا كان هؤلاء يقايضون تجارة الصمغ العربي بأنواع الثياب الهندية الفاخرة/النيلة، وأطنان شاي الصين الجيّد على مرسى هدّي وغيره دون أبسط احتكاك يذكر!
ثمّ إنّه يجدرُ بنا ونحن نخطو خطوات نحو أمّ التونسي أن نعلم أنّ الآلة الحربية الإعلامية التي رافقت القوى الاستعمارية لم يكن أمامها بدٌ من التسويق لنظرية "التلصّص واللصوصية" وهي حملة قادها الفرنسيون بمباركة من بعض الزوايا المقهورين، الذين كانوا يدعون بالنصر والتمكين للرائد فرير جان في كلّ صباح وعند كلّ غروب/ حسب قوله؛ ويمدُّونه بالذبائح والأعطيات؛ ولا يخفون ترحيبهم وتبجيلهم له؛ لكن ما يدعو للقهقهة هو محاولة فرير جان صناعة قوّة دفاعية وهجومية في آن واحد من هؤلاء، بإمكانها مواجهة بعض قبائل حسّان التروزية والبركنية، حيث عمد إلى تسليحها وقام بتدريبها على القتال لأيام، وأخيرا أوقعهم في حرب لا مناص منها، فتمّ أسر قادتهم ضحوة، مما كلّف فرنسا خسارة 200 مدفع؛ الأمرُ الذي أزعج الجناح الفرنسي المدني/كبولاني، وطالب الرائد فرير جان بالتدخل فورا لإيقاف حرب الاستنزاف هذه، التي غامر بها قومٌ لا يعرفون من تفاصيل الحروب غير ما جرى بين داحس والغبراء أيام جاهلية قريش.
إنّ فتاوى الشيخ ماء العينين ولد الشيخ محمد فاضل القلقمي الحوضي، لم تكن تفرّق بين ساع في خدمة فرنسا بالقلم والسلاح وبين متواطئ معها ضدّ إخوته في الدين والنسب، ورغم هذا فقد اعترف الرائد جولييه أنّ المقاتلين البيظان المحاربين لفرنسا، كانوا يتوخون الحذر من أن تصيب مدافعهم أعوان فرنسا من المجنّدين والمترجمين/ كما حدث في معارك إينشيري، وكثيرا مّا سعوا في إغاثتهم وإنقاذهم، ولم يكن هدفهم الأوّل صغار المجنّدين بقدر ما كانوا يهتمون بقادة فرنسا.
ثمّ إنّ المنطقة التي تعاقب على إدارة الحرب فيها أكثر من نقيب وضابط، وكانت حُلم فرنسا/ منطقة آدرار، لبسالة رجالها وإقدامهم وارتباطهم الوثيق بالعلّامة الشيخ ماء العينين القلقمي. وفي كتابه " التوغل في موريتانيا " يقول جولييه نقلا عن القائد الاستعماري كبولاني: {من يضع يده على واحات النخيل يضع يده على الرحل}.
وتعليقا على كلامه يضيف جولييه: {.. وبعد موت كبولاني شرعنا في المسير نحو تكَانت ومنها إلى آدرار، فوضع اليد على آدرار يعني – والكلُّ يعلم – وضعها على مواقع السلاح ومخازن مؤن العدو}. ويبرّر جولييه أهمّية آدرار لعدم وجود فاصل بينها وبين المغرب.
وبعد أن قدّم المستكشفون الفرنسيون وأعوانهم من بعض زوايا الترارزه، خريطة كاملة بتفاصيل جغرافية منطقة آدرار الصخرية، عمل الفرنسيون لهذا الغرض وأعدّوا عدّتهم وكانت على النحو الآتي حسب رواية الرائد جولييه:
1 – أربعة فرق مكوّنة من 550 قناصا بقيادة الرائد Claudel.
2 – مفرزة الجمّالة مكوّنة من 113 قناصا بقيادة النقيب Plomion.
3 - قسم المدفعية الجبلية المحمولة على الجمال بقيادة الملازم Robert.
4 – كتيبة من الفرسان مكوّنة من 30 حصانا بقيادة الملازم Violet.
5 – مجموعة من المناصرين البيظان لديهم 60 بندقية تقريبا بقيادة Hupertus.G.D.
6 – قافلة تتألّف من 300 شحنة بارود احتياطية لكلّ فرد، و500 عيار مدفع ثقيل، وشهرين من المؤن والمعدّات الصحية الضرورية وطاقم لنقل الماء.
إنّ هذا العتاد العسكري الهائل - حينها - لا يمكن أن يقال بأنّه ذاهب للنزهة في أراضي صحراوية جرداء لا تعرف أبسط مقوّمات الرفاهية والراحة إلا في وقت يسير ومحدّد.
يضاف إلى هذا المقاتلين الاحتياطيين الذين قدموا من منطقة الترارزه تحت قيادة الرائد فريرجان، والذين قدّرهم الرائد جولييه ب 200من الجمّالة، و800 ملازم لحمل المؤن، وبعد 15 يوما من القتال العنيف دخل الفرنسيون عاصمة آدرار الأبية "أطار"، هذا مع البون الشاسع بين هذه القوّة وقوة أصحاب الأرض، التي لا يدفعها شيء بعد الإيمان بالله مثل التشبث بوطنهم وبلادهم.
ثم إنّ القول بغياب مظاهر المقاومة المسلّحة في أرض البيظان! يخالف شهادات ووثائق كبار الضباط الفرنسيين، الذين عبّروا عن ذلك في أكثر من مصدر.
يقول جولييه متحدّثا عن معركة الطريفية/ إبريل 1925م : {إنّ هذه المعركة هي أطول وأحمى معركة تمّ تسجيلها في موريتانيا، وربّما في جميع أقاليمنا الصحراوية ... حيث دامت ثلاثة أيام بلياليهنّ، حوصرت إحدى كتائبنا الجمّالة من قبل جيش يفوقها ثلاث مرات}. ويضيف منوّها ببسالة وإقدام المقاومين {واستخدم المهاجمون الميدان ببراعة في منطقة ذات كثبان، وانسابوا من باقة إلى باقة، ووصلوا فورا إلى 200م تقريبا من أصحابنا؛ التراشق كثيف؛ فالركَيبات لديهم هدّافون من النخبة، ويوجّهون الطلقات بدقّة}. وكانت نتائج هذه المعركة كارثية على العدو الفرنسي، يضيف جولييه:{ كانت خسائرنا كبيرة، حيث قتل 17من بينهم النقيب - قائد الكتيبة – و5 قناصة، و11 من الحرس، و6 جرحى 4 قناصة، و2 من الحرس}.
لقد بقي كثير من أمراء الترارزة/ حسّان، رافضين لفكرة الخضوع والخنوع لفرنسا حتى وإن كانوا محاطين بأناس قلوبهم كأفئدة الطير، لا يخفون ولاءهم السياسي وتملُّقهم لفرنسا، الأمر الذي حدى بهم إلى تقديم أنفسهم كبديل شرعي للمحاربين من حسّان، وهو أمرٌ لفت انتباه الرائد فرير جان وامتعض منه بقوله: {أمّا الزوايا فالسائد عموما في الأوساط الفرنسية هو أنّهم يتطلّعون إلى استقرارنا في البلد لكي يستفيدوا من الاستقرار، وهو أمرٌ لم يعرفوه حتى الآن}. وحتى لا نظلم القوم انسياقا تحت نظرية المؤامرة فإنّ الرائد فريرجان شعر بالخوف حين علم أنّ غالبية شباب اترارزه من أبناء حسّان وغيرهم أصبحوا يتّجهون خلسة نحو آدرار؛ خروجا من تابوت فرنسا ومخزنها الكبير في منطقة اترارزة، فشكّلوا بهذا جبهات ضدّ فرنسا في جبال آدرار بعيدا عن أعين فرنسا استجابة لنداء الشيخ ماء العينين ولد الشيخ محمد فاضل.
إنّ معركة أمُّ التونسي التي هي مدار حديثنا خير ما يحدّثنا عن أخبارها هو النقيب الفرنسي دوتوه لويوسكي في روايته/ الغزوات على أدرار، ويزيد روايته قوّة كونه أحد المشاركين فيها، وملخصّ روايته قوله: { بوغتت الفرقة المتنقلة للترارزه في 18 أغسطس من قبل أولاد ادليم على كثيب أمُّ التونسي، وبعد أن هزمت تماما، اضطرت إلى أن تتقهقر تاركة جثّة الملازم De Mac-Mahon، و5 ضباط صف، و10 قناصة، و22 من الحرس، وعادت الفرقة أدراجها بعد أن فقدت 17 من عناصرها وتوفي قائدها سيدي ولد الشيخ ولد العروصي الديلمي}. وهذه الرواية بعيدة كلّ البعد من روايات حراس الوهم الاستعماري، الذين أضفوا على هذه المعركة ما حباهم الله به من خيال أسطوري، قائلين بأنّ هذه المعركة لم تكن لله وأنّها كانت على أبرياء، في الوقت الذي يقرُّ النقيب المشارك فيها لويوسكي بأنّها كانت على فرقة فرنسية./ لكن لا يهمّنا هذا بقدر ما يهمُّنا تداعياتها وانعكاساتها الخطرة على ساكنة آدرار، الذين هم معقل القبائل ذات الشوكة المحاربة لفرنسا.
يقول النقيب لويوسكي: {تعالت صيحات الغضب إلى متى سنظلُّ على هذه الوضعية الدفاعية التي تكلّفنا أغلى دماء جنودنا؟ أسنجرؤ على الذهاب إليهم لمعاقبة قطاع الطرق؟ }. ولا يخفى على أحد هذه الروح القتالية الاندفاعية التي دفعت بها فرنسا قادتها وحلفاءها في المنطقة، الأمر الذي أورث جريمة حرب غابت في طي النسيان، دعا إلى ارتكابها أحد القادة الفرنسيين في منطقة آدرار حسب رواية لويوسكي: }هبوا إلى الهدو.. هبُّوا إلى الركَيبات وأولاد ادليم؟ لقد نهبتم، واغتصبتم، وأصبتم، قضى آباؤكم وإخوانكم تحت نيران قطاع الطرق! لقد طفح الكيل!{ ؛ويا ليت الأمر توقّف عند هذا؟ يضيف النقيب لويوسكي }... هاهي البنادق، وهاهي الذخائر، خذوا الثأر، ردُّوا على الطلقة بالطلقة، وعلى النهب بالنهب، وعلى الغزوة بغزوة! فالسواعد والتهالات يقيمون بأزمور، وأولاد القاظي في نواحي عيون عبد الملك، فقطعانهم ضخمة، إنّي أعطيها إيّاكم، اذهبوا لاستلامها!}. هكذا ببساطة وهكذا تمّ الأمر؛ وهكذا تناسى التراجمة وأحفاد آملازه مشروع السّلم الكبولاني الذي جاء الضباط الفرنسيون لتنفيذه، نسوا - كذلك - خطورة الكارثة التي أوقعتهم فيها فرنسا، غاضّين الطرف عن جرائمها، ذارفين الدموع وأصوات النحيب على جنود جاؤوا من وراء البحار، لا لشيء سوى سواد عيون فرنسا؛ وبطبيعة الحال استجاب أصدقاء فرنسا للكارثة فهّدّموا البيوت وأحرقوا المنازل، وسلبوا ما خفّ وزنه وغلى ثمنه ... وفي الأخير مدّ قائد منطقة آدرار رجله فرحا بما حدث، حيث قتل 50 رجلا وتمّ نهب 5000 جمل لا لشيء غير أنّهم رفضوا مشروع فرنسا الاستعماري.
ثم إنّ من الإجحاف التاريخي القول بأنّ 80% من ساكنة موريتانيا/ عربا وبربرا وزنوجا، كانوا على قلب رجل واحد في صف المحتل، ذلك أنّ الوقائع التاريخية تفيدنا بأنّ ثلّة قليلة وقليلة جدا من المرتزقة هم من خانوا وطنهم وقضيتهم ووقفوا خدما لفرنسا/ من أجل مصالح آنية، ومن الشواهد على ذلك أنّ جميع الإمارات الحسّانية بلا استثناء، ظلّت إلى عهد قريب ضدّ توقيع أيّ معاهدة سلم مع فرنسا، وخير مثال على ذلك أمير أدوعيش/البطل المفدّى، بكّار ولد اسويد احمد الذي قتل وهو في التسعين من عمره على يد المستعمر الفرنسي في "بوكَادوم"، وبعد الضغط الشديد والحروب والانشقاقات هنا وهناك استسلمت الغالبية بحكم أمر الواقع، ومع هذا ظلّت تضمر الحقد لفرنسا هذا من جهة حسّان، أمّا الزنوج من السوننكيه والبولار فقد تضرّروا كثيرا من المستعمر، حيث أحرق ما يزيد على 135 قرية تابعة لهم في مناطق كيدي ماغه، وكاراكورو، وكيهيدي.
من جهة أخرى ظلّ الكثير من الزوايا رافضين للمحتل الفرنسي، حيث وصل بهم الأمر إلى عدم السلام ومصافحة من ثبت أنّه تعامل مع فرنسا هذا فضلا عن عدم مؤاكلته أو مجالسته، ودبّجوا القصائد العصماء في مواجهة الخلايا الاعلامية والأبواق المسبّحة بحمد فرنسا بكرة وعشيا، ومن خيرة العلماء بعد الشيخ ماء العينين ولد الشيخ محمد فاضل العلّامة المختار ولد ابلول الحاجي الذي كان يفتي بأنّ مظاهر السيبة والفوضى في النظام الأميري الحسّاني خير من عدل فرنسا، وألزم الناس بحرمة التصويت في استفتاء 1958م لصالح فرنسا، ومحمد سالم بن ألمّا اليدالي، وهكذا أبناء مايابه الجكنيين، وغيرهم ممن أفتى بحرمة الإقامة في أرض خاضعة لسلطة الكفّار، مما جعلهم يهاجرون إلى مناطق شتى، وظلّت الطريقة التيجانية الحموية، والقادرية الكنتية والاغظفية، ضدّ فرنسا وعملاءها، وتربي أبناءها على بغض الكفّار وعدم جواز موالاتهم.
ويختم الرائد جولييه رغم عنجهيته وعصبيته كتابه " التوغل" بخاتمة هي أشدُّ على حماة الوهم الاستعماري/أحفاد آملازة والتراجمة، مما عاناه آباؤهم:{ وكخلاصة يجب أن نعتقد أنّه منذ 1919م تاريخ استقرارنا في آدرار، فالوضعية السياسية للتخوم الموريتانية بالرغم من كافّة مجهوداتنا لم تشهد إلا تقدُّما يسيرا، فالقبائل الشمالية، الذين لم يقبلوا حتى الآن الاعتراف بسيادتنا لا يزالون مستقلّين، وعمليات النهب لا تزال كثيرة، ومنذ سنوات عديدة أصبح أصحابنا أكثر جرأة من ذي قبل، وأصبحت توحي بفكرة معارض بشدّة}.
وفي الأخير فإنّ مشروع فرنسا الاستعماري فشل فشلا ذريعا في تحقيق مكاسب على الأرض، وما نجح في شيء خارج السياق السياسي، بحيث صنع من التراجمة ساسة ووزراء فرانكفونيين لا يمنعهم الحياء من التظاهر بمغازلتها والسعي في خطب ودّها، أمَا وأصبحت موريتانيا اليوم دولة ذات سيادة على أرضها وقانون يحكمها، فإنّها مطالبة وهي في سعيها في إحياء التراث القيمي الموريتاني، الاعتناء بأبنائها البررة الذين ضحوا بأرواحهم دفاعا عنها كأقّل تقدير؛ وذلك بتبني فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز مشروعا علميا يسجّل مآثرهم وما قدّموه لموريتانيا الغد/ على غرار الجوائز التقديرية السنوية.
وعلينا بناء موريتانيا الغد متصالحة مع أمسها، لا فرق بين شرقيّها وغربيّها، جنوبها وشمالها، عربيّها وزنجيّها، شريفها وبربريّها، وأن نعلم بأنّ مفهوم الإقصاء يتنافى مع مقوّمات الدولة المدنية ذات التعدّدية، هذا إذا علما أنّ الدستور الموريتاني يضع المواطنين سواسية في أداء الحقوق والواجبات؛ ويلزمهم بالمحافظة على مقدّراتها الحسّية والمعنوية.
------
المراجع:
1- التوغل في موريتانيا للرائد الفرنسي جولييه.
2- مذكّرات الرائد الفرنسي فرير جان.
3- الغزوات على آدرار للنقيب الفرنسي دوتوه لويوسكي.