نقاش حول كتاب يسرد أهم الصراعات الفكرية في موريتانيا خلال القرون الماضية (روبورتاج مصور)

أحد, 2016-01-17 23:16

التأمت بفندق وصال ندوة فكرية دعا إليها المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية "مبدأ"، لمناقشة كتاب "الحركة الفكرية في بلاد شنقيط حتى نهاية القرن الثاني عشر الهجري (القرن 18 الميلادي)" والذي صدر في الأسابيع الماضية، لمؤلفه الدكتور عبد الودود ولد عبد الله الملقب ددود.

حضرت الندوة عشرات الوجوه الثافية والسياسية في البلد وعلقت على الكتاب كوكبة من ألمع الأسماء المشتغلة بالثقافة والبحث، وقد نوهت كلها بهذا العمل الذي اعتبرت كل من أتوا بعده عالة عليه.

مدير المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية الدكتور محمد سيد أحمد فال بوياتي قال في كلمته الافتتاحية إن هذه الندوة تدخل ضمن ندوات دأب المركز على تنظيمها، حيث تشغل حيزا كبيرا من اهتمام المفكرين والمثقفين وتشكل إشكالات بنيوية في الثقافة الموريتانية، كقضايا التنوع الثقافي والمواطنة والدولة والقبيلة...

أما رئيس الجلسة الدكتور محمدو ولد امين فذكر قصته مع الكتاب بكثير من التأثر قائلا إنه "أكل وهو ما يزال على النار " - كما يقال - مشيرا بذلك إلى كثرة الاستناد عليه وهو ما يزال مرقونا.

الكتاب قدم تحقيبا تطوريا للصراع الثقافي

مؤلف الكتاب الدكتور ددود قال إن الكتاب في أصله أطروحة دكتوراه؛ كتبت قبل عشرين سنة تحت إشراف الأستاذ محمد حجي، لكنها لم تنشر في الوقت المناسب.

ورغم أن الأطروحة ناقشت حينها بعض القضايا التي كانت جديدة في ذلك الوقت، فإن تأخر نشرها جعلني أخشى أن تكون قضاياه قد تم تجاوزها.

وأضاف ددود: لكن الفراغ الثقافي عندنا جعل قضايا الأطروحة تبقى طرية وغير متداولة.

ورأى المؤلف أن الكتاب قدم تحقيبا تطوريا للتاريخ الثقافي، حيث وجدت فترة المدن التي ساد فيها الخطاب الفقهي، وتلتها فترة التعرب (القرن السابع عشر والثامن عشر) التي طغى فيها الخطاب الباطني (الصوفي) والإمامي (نسبة إلى دعاة تنصيب الإمام).

وفي مرحلة لاحقة ظهر اتجاه توفيقي كان من أسبابه عجز الخطاب الفقهي عن مواجهة مقولات الباطنية الإمامية، فتوسل بعلم الكلام لمواجهتهم.

ولاحظ ددود أن دعاوى التكفير التي راجت إبان صراع الفقهاء والصوفية في تلك الفترة توضح أن التكفير كان ثقافيا، لم تترتب عليه آثار عملية.

وحين رأى الخطاب الصوفي أن خطابه التقليدي لم يعد كافيا لمواجهة أصحاب علم الكلام تسلح بعلم الحديث، وهو ما يفسر نزعة لمجيدري، الذي يرى بعضهم أنه سلفي، والواقع أنه صوفي تسلح بعلم الحديث.

وفي القرن الثامن عشر ظهر نمط جديد من التصوف هو التصوف الطرقي التوفيقي (الشيخ سيدي المختار الكنتي)، حيث كان التصوف قبل هذا القرن ثوريا (ناصر الدين، المجذوب)، أو فلسفيا (لمجيدري).

وفي مستهل القرن الثالث عشر الهجري تحول الصراع ليكون بين الطرق الصوفية نفسها.

 الكتاب مثل تحولا نوعيا في مجالات دراسات التاريخ الثقافي

الدكتور السيد ولد اباه كان أول المناقشين للكتاب، حيث رأى أنه مثل تحولا نوعيا في مجال دراسات التاريخ الثقافي، حين قدم أول محاولة منهجية مكتملة لكتابة التاريخ الثقافي لهذه المنطقة.

وفي مستهل محاولته لتقويم الكتاب؛ قسم ولد اباه مناهج كتابة التاريخ الثقافي إلى ثلاثة أقسام:

*منهج يركز على تمفصل الثقافة في التاريخ السياسي (ربط الحركة الثقافية بسياقات ظرفية)؛

*قراءة تاثية للتاريخ بتعبير الدكتور حسن حنفي، وتركز على ذكر الفضائل والرذائل، وقد تجسدت أخيرا في تهافت الأسر على نشر تراثها، "وهي ظاهرة - يقول ولد اباه - تحتاج إلى نقاش مطول لعملية التوظيف المضرة التي تخللتها".

*الدراسات المنهجية الحديثة.

وخلص ولد اباه إلى ما يميز الكتاب هو تجنبه الانكفاءَ وتمجيد الذات، كما أنه قدم الكثير من الاتجاهات المنهجية القابلة للاستثمار.

ولد بوعليبه يقدم مآخذه على الكتاب

الدكتور محمد ولد بوعلبيه لاحظ على عنوان الكتاب غمطه لحق المدن الأخرى، ورأى أنه كان من الأجدر استعمال عبارة جامعة لجهات الوطن كافة، رغم اعترافه أن شنقيط تعبر عن المجال البيضاني عموما.

كما أخذ على المؤلف اقتصاره على بعض آراء الفقهاء في السجالات التي دارت بينهم، وعدم استقصائه في هذا المجال، ومن أمثلة ذلك: السجالات المتعلقة بالعقوبة المال، وإرث الناشز، ومداراة تيشيت...

ومما أخذ ولد بوعلبيه على الكتاب أيضا غياب الفكرين السياسي والفني وكذا النحوي .

في قضية مجلوبي السودان.. ولمجيدري اللغز المحير

الدكتور البكاي ولد عد المالك قال إن توظيفه للمنهجية الخلدونية - بوحي من الكتاب - نفسه قادته إلى ملاحظات مهمة، ينبغي توظيفها في وقتنا الحالي، ومنها:

*الانتشار السلمي للإسلام في الصحراء، وبتعبير آخر "انتقال العدوى الثقافية: انتشار الإسلام عن طريق المجاورة والقوافل التجارية...".

وهو أمر - يقول ولد عبد المالك - يضفي مصداقية على فتوى أحمد باب التنبكتي بتحريم الاسترقاق في المجال الصحراوي.

*مسار التطور العكسي الخلاق، ويعني أن "صيرورة الدول والمجتمعات تصبح مقلوبة": الانقلاب من التجارة إلى الزراعة، ومن المسجد إلى المحظرة، ومن المدينة إلى البادية، ومن الدولة إلى المدينة...

*تزاحم المؤلفات وسلاسل الأنساب في فترة زمنية واحدة يطرح التساؤل عن سببها، ورأى ولد عبد المالك أن تفسير المؤلف لها ما سماه "إيديولوجيا الشرف والبحث عن الشرعية" لا يقدم تفسيرا مقنعا؛ لأن السلاسل لا تنتهي كلها إلى آل البيت.

*وأضاف ولد عبد المالك: إذا كانت هناك إضافة تستحق الإشادة في هذه الدراسة فهي محاولة فك أسرار شخصية الرجل اللغز: لمجيدري، حيث رأت الدراسة أنه يكون باطنيا عندما يواجه المتكلمين، وظاهريا عندما يواجه الفروعيين، وسلفيا عندما يواجه المتصوفة.

وخلص الدكتور البكاي إلى أن الغموض الذي يكتنف شخصية لمجيدري لا يخلو من أربع احتمالات:

-أن القارئ لا يزال عاجزا عن فهم تراثه؛

-أن الأمر يتعلق بمرحلة فكرية ما تجاوزها الرجل؛

-أن الأمر يطرح إشكالية صحة الأعمال المنسوبة للرجل؛

أن هذا الرجل كان يخفي شيئا ما، وهذا الأخير يعززه قول الشيخ سيدي المختار الكنتي: لقد أبعد لمجيدري النجعة في فتوحات ابن عربي.

الكتاب يندرج في إطار "أوليات النقد الثقافي"

الدكتور الشيخ ولد سيدي عبد الله رأى أنه يمكن تصنيف الكتاب ضمن ما يسمى "أوليات النقد الثقافي".

وأوضح إن الكتب التي تناولت الجانب الأدبي - وهو لب الثقافة الشنقيطية - حصرت روافد تلك الثقافة في رافدين: مغربي ومشرقي. مضيفا أن ددود أضاف الرافد الحجازي.

وتساءل ولد سيدي عبد الله مستغربا: لماذا تم إغفال الرافد السوداني؟ حيث أن من قرأ "فتح الشكور" وتكملته "منح الرب الغفور" لا يمكن إلا أن يعترف بتأثير هذا الرافد.

وفي ختام مداخلته طرح ولد سيدي عبد الله سؤالين: هل يمكن اعتبار الشاب الشاطري أسطورة في ظل وجود مصادر تتحدث عن كونه من علماء القرويين جاء إلى هذه البلاد فنظم أساليب التعليم وطرق التبليغ.

أما السؤال الثاني فهو: في أي خانة يمكن وضع التآليف في أدب المناقب، حتى نخلص إلى الحديث عن الأسطورة الشنقيطية؟

آخر المتدخلين كان الدكتور يحي ولد البراء، وقد أخذ على الكتاب إغفاله للحديث عن قضايا كثيرة أبرزها: الفقه السلطاني، والسجالات الفكرية: فقهية وعقدية وصوفية، ومنها: مسألة البعث بالأجساد ومن آثارها الفقهية: قضية اجنبية الزوجة أو الزوج...

و قبل اختتام الندوة تعاقب بعض الحضور على الميكرفون قبل أن يعود لمؤلف الكتاب الدكتور ددود الذي اكتفى بشكر المتدخلين والقول إنه ليست للمؤلف سلطة على فهم الناس لما كتب ولا على انطباعهم عنه وإنما يصبح عمله بعد نشره مشاعا بين الناس !