تبدو الدراسات الثقافية، التي انتشرت خلال العقدين الأخيرين في المؤسسات الأكاديمية وبين الباحثين والنقاد في بلدان العالم المختلفة، وكأنها تقدم بديلاً للنقد بالمعنى التقليدى الذي كان يجد في الأدب حقلاً مخصوصاً للبحث والقراءة. ففي هذا النوع من البحث الذي يطلق عليه "الدراسات الثقافية صار الأدب تفصيلاً صغيراً في رقعة واسعة من الممارسات والانشغالات الإنسانية، يتساوى في الأهمية مع طقوس الاحتفال وأشكال اللباس والفن الشعبي ووسائل الترفيه بصفتها حقولاً للبحث والدراسة يمكن أن نتعرف من خلالها على قوة الهيمنة وأشكال مقاومة تلك الهيمنة من قبل المجتمعات المدروسة.
وبهذا المعنى تم نُزع طابع التقديس عن المؤسسة الثقافية السائدة والنصوص الكبرى التي تمثل جوهر الأدب وتحتكر هذا التمثيل" وأصبحت نصوص شكسبير مثلا تدرس بنفس المستوى الذى تدرس به أغاني البوب والراب فى الغرب. وقد توسع بفضل مناهج الدراسات الثقافية اختيار النصوص والمقاربات التي تدرس في المؤسسات الأكاديمية لتمثل كما هائلاً من الاهتمامات والممارسات الثقافية والشرائح الاجتماعية والأعراق وثقافات المجموعات الهشة والأقليات و المرأة وتبنت "الدراسات الثقافية" تعريفاً واسعاً للثقافة، تعريفاً أقرب الى مفهوم الأنثربولوجيا التي تعني بالثقافة "أشكال ممارسة الحياة والتعبير الاجتماعي أي تصرفات الإنسان وهو يأكل ويتكلم ويتفاعل ويفرح ويحزن ويغني ويمارس طقوسه الخاصة. وقد أدى تبني هذا التعريف الواسع للثقافة الى إدخال عدد هائل من الحقول والممارسات الى دائرة البحث والتقصي الذي تقوم بها الدراسات الثقافية .
ورغبة فى اثراء البحث حول مناهج وأدوات الدراسات الثقافية ودورها فى تشريح الظاهرة الثقافية بالمعنى الفسيولوجى نقترح تعميق النقاش حول مفهوم : :الآلام الثقافية " وهو مفهوم نسعى من خلاله الى فهم حالة الشعور بانعدام الأمن والارتباك وعدم اليقين فى المستقبل التى تعيشها ثقافات المجموعات الهشة التى ترزح تحت سلطة المركزيات الثقافية ، و مدى انعكاس تلك الالام فى المنجز الثقافى لتلك الجماعات وهل يمكن اعتبار فن المدح الشعبى لدى مجموعة الحراطين أو العبيد السابقين تعبيرا عن الآلام الثقافية التى تعانى منها تلك الفيئة الرازحة تحت وطأة الهيمنة ونوعا من مقاومة ومنازلة المركزية الثقافية العالمة نحن على يقين أن عملية الحفر فى المنجز الثقافى الوطنى محفوفة بمخاطر مواجهة عصبيات المركزية الثقافية وسطوة المقدس بالمفهوم الاجتماعى وعقدة امتلاك الحقيقة. ومع ذالك يجد الباحث نفسه مضطرا لمساءلة النسق الثقافى والمعرفى الذى صاغ الوعى الجمعى للأمة الموريتانية عبر تاريخ تشكلها الطويل .
وبجهد يسير من الحفر فى المنجز الثقافى المحلى نلاحظ ان النسق الثقافى المسيطر يدور حول مفهوم "الثقافة ألعالمة" رغم عدم دقة هذا المفهوم او ثقافة علية القوم وهذا النسق مغلق يتم تداوله فى دائرة لا يراد له الخروج منها لأنه يؤكد ويشرع النسق الاجتماعى والمركزية الإثنية، ويتم التسويق لهذا النسق الثقافى بوصفه حامى الهوية والدين والتاريخ وأى اخلال بهذا المنطق هو خروج على المفهوم الجمعى للثقافة ، هذه المركزية الثقافية الطاردة التى تمارس سطوتها المقدسة على المنجز الثقافى المحلى تقصى كل اشكال التعبير الثقافى التى لا تستجيب لشروطها وتقبل برهاناتها مثل الثقافات الشعبية فى كل تمثلا تها والتى ينظر اليها على أنها مجرد ظاهرة غريبة لافتة للانتباه. عملية الإقصاء هذه جعلت الذين ينتمون الى الهامش بالمعنى الثقافى يشعرون بالإحباط والإلغاء والهيمنة وهذا دفعهم الى ابتداع جملة من الممارسات الثقافية لمقاومة تلك الهيمنة.
وبما ان المركزية الثقافية المسيطر تتوسل الخطاب الدينى وتسعى للتماهى معه وتدعى تمثيله فإن أى مشروع للمنازلة معها يجب ان يتمثل نفس الخطاب المقدس وأدواته، من هنا نعتقد أن ابتداع "فن المدح " بصيغته الشعبية من قبل مجموعة الحراطين او العبيد السابقين جاء لتلبية رغبة فى مقارعة تلك المركزية ومزاحمتها فى الصدارة ولو فى لحظات خاطفة. واستفاد المدح من عوامل اساسية ساهمت فى انتشاره منها: بساطة ادواته الطبل وحنجرة المداح ومجموعته و ارتكازه على المقدس وهو ما مكنه من تجاوز سلطة الفتوى التى هى وسيلة المصادرة التى تجيز وتحظر الممارسات الثقافية. ورفضه للنصوص الجاهزة الخاضعة لسلطة النسق الثقافى المسيطر. اكرونولوجيا المدح:
ينتمى المدح الى فنون الفرجة الشعبية المركبة والتى غالبا تكون نتاج تجربة انسانية عميقة غنية بالانتظارات والانكسارات والخيبات. وهو فن يعبر عن رغبة صادقة فى انتهاك النظام الاجتماعى وإعادة انتاج المركزية الثقافية ليكون لثقافة المداح والمجموعة التى ينتمى لها مكانا فيها. ومن خلال طقس المدح يكتسب المداح ومجموعته شرعية اجتماعية وثقافية " مؤقتة" من خلال عملية تبادل الأدوار حيث يفرض طقس المدح صدارة المداح للمجلس حتى بحضور الإمام والمفتى والأمير وشيخ القبيلة انها اللحظة التى ننتهك فيها المركزية الثقافية والإثنية، ويصبح المداح هو محور العالم ومحط الأنظار، انها اللحظة التى يستغل فيها المداح نصيبه المعرفى من المقدس ليعبر عن آلامه ويترك لروحه العنان لتعلن احتجاجها على تاريخ العبودية والعنصرية والاستغلال، ولتعلن خيبتها المستمرة فى الزمان والمكان من النسق الاجتماعى والثقافى المسيطر وتفصح عن توقعاتها المتناقضة من المجتمع والسلطة.
ورغم ان المدح فن شعبى بامتياز فهو ايضا فن الاحتجاج على الوضع القائم لذالك يركز على القيم الكبرى التى يرى فى تكريسها انصافا للجميع مثل العدل والرحمة والحرية والساواة والصدق والأمانة. ويختار سير الأبطال الذين يتناولهم بعناية لإعطاء المثل الأعلى على مرجعية انسانية الإنسان.
وتبدأ اتراجيديا المداح عندما يدخل فى اداء " الكرزة " وهى قصيدة طويلة تحكى سيرة البطل المخلص العادل الرحيم الذى هو هنا نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم. وفى لحظة التماهى مع النص يدخل المداح فى فردانية مؤلمة . ان المداح فى لحظة التماهى ينجذب نحو طهرانية صوفية استثنائية تهز الوجدان والمشاعر وتحرر الطاقات الروحية والجسدية.
و المداح يتعاطى خياراته الإنسانية فى لحظة زمنية فارقة لأن السيرة التى يتعاطى معها تعاش مستقبلا و افعال النبى صلى الله عليه وسلم وأقواله تستوعب احتياجنا الحالى الآنى بل المضارع . و الرعشة التى ينهى بها المداح دوره هى رغبته الجامحة فى انتهاك المعايير التى ارستها الثقافة والسلطة والمجتمع على حسابه وحساب المجموعات المستضعفة.
ولا ينتهى المدح قبل المرور على سير الصحابة بوصفهم نموذجا للإنسان الكامل الذى لا يظلم أخاه الإنسان ولا يخذله ولا يحقره ؟ وهى محاكمة عادلة للحضور وللضمير الجمعىى ووضع للتقوى نفسها على محك المساءلة ؟ عندما ينتهى طقس المدح تعود الأمور الى نصابها وتعود المركزية الثقافية لممارسة سلطتها وتعود ثقافات الهامش وثقافات المجموعات الهشة لتنكفئ على آلامها فى انتظار المخلص الذى سيسمع صرخات عذاب العبودية وتعبيرات الروح المكتئبة ويقطع مع المركزية الثقافية والإثنية الضاغطة.
أحمد ولد حبيبي