عُدتُ إلى السنغال بعد عشر سنوات. وقد تغيّرَ كثيراً. كلُّ شيء يتغيّرُ كثيراً. والتصوُّرُ الأصولي وحده هو ما ينفي التغيّر. وفي غير الأحواز الأصولية يسود هيراقليطس. بيْدَ أن لكلِّ تغيير قصتُه. ولا أزعم أنّني أحيطُ هنا بتغيرات السنغال، ولا حتى أنّني أرومُ ذلك. وإنّما قصدي تسجيل انطباعات زائر عامي.
1- وفي الحقيقة فإن العاصمة داكار فاجأتني بنوعيّة سياسات "الإنفتاح" التي قامت بها في غيابي. لقد فتحت الشوارع السيارة العاصمة وأنقذتها من زحمة الساعات الطويلة، التي ما زالت باقية، وإن بشكل أقلّ كثيراً مما في السابق. وأنا اشتراكي، ولكن ليبراليّة عبد الله وادْ كسرت ما بقيّ من الاحتكارات الكبيرةالتي كانت تُشوِّه "الاشتراكيّة" السنغوريّة وتُحوِّلُها إلى ما سمّاه التروتسكيون بـ"رأسماليّة الدولة" ففتحت السوق لرأس المال الصغير للمنافسة. وتترجم هذا إلى صعود طبقى جماعي. وقد بدا أن الاحتكار "اللبناني" وتايكونات "عبدو جوف"، قد تقزّمَ كثيراً، كما اختفت سطوة الشركات الاحتكارية للألبان وتسويق الخضار والخشب والملابس.
2- وما بدا أكثر مفاجئة هو ارتياح الطبقة الوسطى بداكار: مساكن أجمل، (العمارات والفِلَلْ المحاطة في شرفاتِها بدرابزين الألمنيوم) ومجّمعات سكنية أفضل، بخدمات جماعية جيّدة، وأكثر وأكثر راحة، وتوّفر السيارات الزاهيّة لها (بعد أن كانت موريتانيا تفتخر على السنغال بالسيارات الثمينة). وما بدا مفاجِئاً هو قلّة نسبة الدراجات النارية إلى نسبة السيارات (بعد أن كان العكس هو الصّحيح). وبدا لي أن الطبقة الوسطى السنغالية قد تركت الطبقة الوسطى الموريتانيّة وراءها.
3- بدا لي أيضاً أن نظام ماكي صال يدفعُ بهذه العملية ويوسِّعُها، وإن بشرائح اجتماعيّة مختلفة، وبنظام اجتماعي-اقتصادي مختلف. فالمنمي والفلاّح أُدخِلَ في السوق ودُمِّرت الوسائط النفعيّة التي كانت تحقِّقُ الرِّبح على ظهره عن طريق فرض رقابة الأسعار. وقد استهدفت حركته ثقل العلاقات الاقتصادية الروحية بطوبا وفتحت اقتصاد الدولة لبقيّة الطوائف والشرائح التي قمعها رأس المال بطوبا. وهنالك نمط تعلمي بنائي يحوّل الحركات الدينية من تجمعات روحيّة إلى مراكز تعليمية تمأسِسُ المريدية وتنزع عنها الشخصنة.
4- نظامان اجتماعيان بديا لي أقّلَ ديناميكية: المدن التجارية على الطرق السيارة التي تعتمد على اقتصاد التجزئة والانتجاع. من انجربل واللوغة حتى ضواحي دكار، وهذه المنتجعات المدينية والقروية هي إيّاها. أما نظام التعاون الأسري، حيث البطريارك هو ملك تخدمه النساء فقد بقيّ متلازِماً مع هذا النمط من الاقتصاد الحراثي.
5- لقد اختفت عادات ثقافية ممّا قبل الفيسبوك. فلم يعد طقس تقديم الألبوم العائلي مهماً في مناطق عهدتُه بها. ولاحظتُ تجانساً بين تغيّر وجبة الإفطار مع تغيراتها الجديدة في موريتانيا حيثُ حلّ ويتُ الزّيتون مع العسل واالبن والخبز محلّ الأنماط القديمة. وقد بقيّ "لاخ" غيرَ مغلوب، وإن اختفى من الوجبة الصّباحيّة أحياناً.
6- هنالك ظاهرة مقلقة هي حضورية الرّّيْع الخليجي، الذي بدأ ينشر نمطه الدّيني والمعماري مُقصِياً المنارات النحيلة السنغاليّة واللكنة الدينية السنغاليّة العتيقة ومُمزِّقا النسيج المالكي القديم. ورغم هذا فكما تقول لنا "أنثروبولوجيا الاعتناق" فإن النمط الديني الوافد لا يستبدِلُ الأنماط الدينيّة القديمة، بل يتسيّقُ فيها. وهكذا فلا يعدِمُ المرء وجود أنماط "وثنية" في دين "الأرثودوكسي" الذي يزعمُ محاربة الوثنيّة. وما ينشأ هو صراع هويات فيما يتعلّق بكيفية ارتداء الللحية أو الجلباب.
7-بدا لي أن العلاقات الروحية بين السنغال وموريتانيا ما زالت هي نسق التحام الشعبين الأبرز، وإن كانت أواصر الاقتصاد المشترك وتبادل الجاليات تُنتِج نمطاً بديلاً وموازياً.